"ائتلاف استقلال القضاء" حول اقتراح قانون القضاء العدلي: مرفوض لأنه يناقض عنوة ضمانات استقلالية القضاء
علق "ائتلاف استقلال القضاء" في بيان، على "وضع اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي على جدول أعمال الجلسة التشريعية لمجلس النواب غداً"، وقال: "عطفا على بياناتنا السابقة التي عّقنا فيها على كيفية مناقشته من قبل لجنة الإدارة والعدل، وتحديدا البيانات الصادرة في 31/7/2023 و18/1/2022 و29/6/2021 ".
أضاف: "أول ما نلحظه هو أن مكتب مجلس النوّاب أعلن إدراج اقتراح استقلالية القضاء المكوّن من 169 مادة على جدول أعمال الجلسة التشريعية قبل قرابة 24 ساعة من موعدها، بمعنى أن عددا من النوّاب سيتعين عليهم درسه إلى جانب 15 بندا آخر خلال هذه المدة، ممّا يقوض إمكانية دراسته ومناقشته بصورة جدية".
وأشار إلى أن "الاقتراح يحتوي ضمانات لاستتباع القضاء تحت غطاء شعار "استقلالية القضاء"، إذ تسجَل اقتراح قانون استقلالية القضاء وشفافيته، الذي أعدته المفكرة القانونية وأيده ائتلاف استقلال القضاء لدى قلم مجلس النواب في أيلول 2018، يُعرض هذا الاقتراح على الهيئة العامة لمجلس النوّاب بعد مخاض استمرّ سنوات طويلة داخل لجنة الإدارة والعدل. وقد انتهت هذه اللجنة في النسخة الأخيرة منه التي أقرّتها في تاريخ 7/3/2023 إلى تشذيبِه من العديد من ضمانات الاستقلالية الواردة فيه فضلًا عن إرساء آليات معيّنة تخوّل السلطة السياسية استتباع القضاء. واللافت أنّ لجنة الإدارة والعدل أصرّت على التعديلات التي أدخلتها على الاقتراح متجاهلة ملاحظات ائتلاف استقلال القضاء كما توصيات لجنة البندقية عليه، التي لم تحظ بأي نقاش فيها".
وقال: "من أخطر ما تضمنه الاقتراح، الأمور الآتية:
1- ملاحقة القضاة وتقييمهم في عهدة هيئات تتحكم السلطة التنفيذية في تعيينها
خلافا لما طالب به ائتلاف استقلال القضاء وأوصت به لجنة البندقية، بقي التفتيش القضائي وتقييم أداء القضاة في عهدة هيئتين تعيّن السلطة التنفيذية كامل أعضائهما، ممّا يخوّلها التحكّم بأعمالهما. ومن شأن ذلك أن يبقي مجالًا واسعًا لمحاباة القضاة الذين يوالون السلطة التنفيذية وابتزاز القضاة الذين يحرصون على استقلاليتهم، من خلال التعسّف والانتقائية في التفتيش والتقييم.
وفي حين وضع الاقتراح أنّ لمجلس القضاء الأعلى أن يقترح ثلاثة أسماء لرئاسة كلّ من هيئتي التفتيش القضائي والتقييم القضائي، فإنّه عاد وأُعطى وزير العدل هامشًا بإضافة أسماء أخرى (بموافقة مجلس القضاء الأعلى) تمهيدًا لعرضها على مجلس الوزراء. ومن شأن كلّ ذلك أن يؤدّي بالنتيجة إلى فرض أسماء موافقة لرغبات السلطة التنفيذية وحساباتها وفق ما حذرت منه لجنة البندقية.
2- الفشل في تحرير مجلس القضاء الأعلى من قبضة الحسابات السياسية
تضمّن الاقتراح أنّ مجلس القضاء الأعلى يتكوّن من عشرة قضاة: ثلاثة حكميّون (هم رئيس محكمة التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي والنائب العام التمييزي) وسبعة منتخبون. وقد عمد الاقتراح لتحديد آليّة انتخاب الأعضاء السّبعة إلى تقسيم القضاة إلى سبع فئات يُدعى القضاة إلى انتخاب عضو عن كلّ منها. وقد تكوّنت هذه الفئات على النحو الآتي من: (1) رؤساء غرف محكمة التمييز و(2) رؤساء غرف محاكم الاستئناف و(3) رؤساء محاكم الدرجة الأولى و(4) مستشاري غرف محكمة التمييز و(5) مستشاري غرف محاكم الاستئناف و(6) قضاة التحقيق و(7) أخيرًا، فئة دُمِجتْ فيها فئتان: فئة القضاة المنفردين والفئة المُقترح استحداثها (وهي فئة قضاة المهمّة والتي تضمّ قضاة ينتدبون لمهامّ في أيّ محكمة من دون أن يكون لهم أيّ مركز محدّد ومن دون أن يشترط الاقتراح حيازتهم لدرجة معيّنة).
وفي حين يشكل هذا الأمر تحوّلًا هامًا بالنسبة إلى الوضع الحالي حيث تعيّن السّلطة التنفيذية 8 من أعضاء المجلس العشرة ولا يَنتخب ممثلين عنهم إلّا قضاة محكمة التمييز ومن بين رؤساء غرف محكمة التمييز حصرًا، فإنّ النظر في التفاصيل يجعل الصورة أقل وردية ويظهر خيارات غير مبررة من شأنها منح السلطة السياسية هامشًا واسعًا للتأثير في نتائج الانتخابات وتاليًا في تكوين المجلس للأسباب الآتية:
أ- الفئات السبع فئات مصطنعة تؤدي إلى تعزيز حظوظ الفئات الأقرب من السلطة السياسية
أوّل ما نلحظه هو التفاوت في أحجام هذه الفئات. ففي حين يقتصر عدد رؤساء غرف محكمة التمييز على 10 قضاة فقط، من المرجّح أن يزيد عدد قضاة الفئة السابعة (القضاة المنفردون الذين يبلغ عددهم 107 وفق تشكيلات 2017 بالإضافة إلى قضاة المهمة الذين يمثلون نسبة 5% من الجسم القضائي وفق الاقتراح أي ما يقارب 33 قاضيًا) عن 140 قاضيًا. في حين تتراوح أحجام الفئات الأخرى بين هذين المستويين وفق أرقام تشكيلات 2017 وهي كما يلي: المستشارون في غرف محكمة التمييز 41 ورؤساء غرف محاكم الاستئناف 55 والمستشارون في غرف محاكم الاستئناف 63 ورؤساء المحاكم الابتدائية 22 وقضاة التحقيق 45. وما يزيد من غرابة هذا التفاوت في أحجام “الفئات الانتخابيّة” هو أنّ تقسيم القضاة على هذا الوجه لا يجد أي تفسير منطقي سوى أنّه خيار واعٍ يهدف إلى تعزيز مكانة القضاة الذين هم في أعلى الهرم (وهم عمومًا الأقرب إلى القوى السياسية) مقابل إضعاف مكانة القضاة الشباب أو الذين هم في الدرجات الدنيا (وهم عمومًا الأكثر استقلالية عن القوى السياسية). فليس هنالك أي مشاغل أو اهتمامات تميّز رؤساء الغرف عن مستشاري غرف محكمة التمييز ومحاكم الاستئناف بل يتشاركون في حال نجاحهم الحاجات والتطلّعات والتحدّيات نفسها، فما معنى تقسيمهم ضمن فئات مختلفة؟ وليس هنالك في الآن نفسه أي قاسم مشترك بين القضاة المنفردين وقضاة المهمة، فما معنى جمعهم في فئة واحدة؟ وعليه، بقدر ما يهدف تمييز “رؤساء الغرف” إلى إعلاء شأنهم وضمان حظوظ مرشّحيهم في النجاح، يذهب خيار دمج فئتيْ القضاة المنفردين وقضاة المهمة في المقابل في اتّجاه معاكس تمامًا أي في اتّجاه تخفيض عدد ممثلي الفئات الشبابية من القضاة بحيث يتمّ حصرهم بمقعد واحد وجعل معركة أي مرشّح عن هذه الفئة في منتهى الصعوبة بالنظر إلى كثرة عدد القضاة فيها.
يضاف إلى ذلك أنّ أربعًا من “الفئات الانتخابية” المقترحة تضم عمومًا القضاة المحظيين من القوى السياسية وفق مرسوم التشكيلات القضائية الأخير (2017)، وهي فئات رؤساء غرف التمييز والاستئناف والدرجة الأولى فضلًا عن قضاة التحقيق، وهو أمر يمهّد لإعطاء هامش واسع لهذه القوى بالتحكّم بنتائج انتخابات المجلس.
ب- تهميش الشباب
المفعول الثاني الذي لا يقلّ خُطورة لهذه التّقسيمات المُصطنعة، هو تهميش الشباب. فعدا عن أنّ الاقتراح يحرم أعضاء المحاكم الابتدائية وكل الذين لم يحوزُوا الدرجة الرابعة (أي ستّ سنوات أقدمية وهي الدرجة المطلوبة لتبوّؤ مركز قاضٍ منفرد وفق الاقتراح) حقّ الترشح (إلّا قلّة قد يعيَّنون قضاة مهمة)، فإنّ الدرجات المطلوبة للانتماء إلى الفئات الست الأخرى هي تباعًا: رؤساء تمييز: الدرجة 16، مستشارو تمييز: الدرجة 12، رؤساء استئناف: الدرجة 14، رؤساء المحاكم الابتدائية: الدرجة 9، مستشارو استئناف: الدرجة 6، قضاة تحقيق: الدرجة 6.
وعليه، يظهر أنّه إذا وضعنا جانبًا الفائز عن الفئة الأكبر حجمًا (فئة القضاة المنفردين وقضاة المهمة)، فإنّ القاضي الأكثر حداثة في القضاء عن أي من الفئات الأخرى هو قاض يتمتع بعشر سنوات أقدمية على الأقل. وهذا يعني تهميشًا تامًا للقضاة الشباب مع ما قد يحملونه من فكر تغييري داخل القضاء.
وغالبًا ما يترافق تهميش القضاة للشباب مع تهميش جندري حيث أنّ نسبة النساء هي أعلى لدى الدرجات الشبابية مما هي عليه لدى الدرجات الأعلى.
ت- التحكم في تعيين الأعضاء الحكميين
في حين ضيّق الاقتراح من سلطة الحكومة في تعيين القضاة الحكميين من خلال فرض تعيينهم من ضمن قوائم من 3 أسماء يضعها مجلس القضاء الأعلى، سرعان ما عاد النص ليفتح لوزير العدل إمكانية إضافة أسماء أخرى، بما ينسف هذه الضمانة، وإن اشترط موافقة مجلس القضاء الأعلى عليها".
أضاف: "في الخلاصة، سيكون للسلطة السياسية رأي شبه حاسم في فرض أسماء الأعضاء الحكميين الثلاثة لمجلس القضاء الأعلى. كما سيكون لها من حيث المبدأ هامش تأثير مرتفع جدا في انتخاب 4 من ممثلي الفئات الانتخابية، كما حدّدها الاقتراح. وبنتيجة ذلك، أمكن القول إن الاقتراح أخفق في إيجاد آلية انتخابّة تضمن استقلالية مجلس القضاء الأعلى الذي يفترض أن يكون الضمانة الأولى لاستقلال القضاء".
وتابع: "ما يزيد من قابلية الأمر للانتقاد هو ما ورد في تقرير لجنة الإدارة والعدل لجهة الطلب من الهيئة العامة للمجلس النظر مجددًا في كيفية تكوين مجلس القضاء الأعلى. فقد ورد فيه أنّ أعضاء اللجنة طرحوا وجهات نظر مغايرة لما ورد في الاقتراح لجهة انتخاب 7 من أعضاء المجلس من قبل القضاة، الأمر الذي من شأنه أن يمهّد لعرض هذه الخيارات مجدّدًا أمام الهيئة العامّة، بمعنى أنّ كلّ ما ورد في هذا الاقتراح يبقى وجهة نظر بانتظار الموقف النهائي للهيئة العامة الذي قد يقلب عضوية المجلس رأسًا على عقب في اتجاه التقليل من الأعضاء المنتخبين أو تعديل الفئات التي يحصل الترشيح على أساسها وبالنتيجة تعزيز نفوذ القوى السياسية في تعيين أعضائه".
وعن معهد الدروس القضائية، قال: "إن معهد الدروس القضائية هو الآخر تنقصه ضمانة الاستقلالية. فهو يبقى إحدى وحدات وزارة العدل، ولا يتمتع بأي شخصية معنوية. ويسمي كل مديريه، بمن فيهم مدير التعليم المستمر، وأعضاء مجلس إدارته وزير العدل بعد موافقة الهيئة القضائية المختصّة. ويخضع تعيين رئيسه للآلية نفسها المعتمدة بخصوص تعيين رئيسي هيئتي التفتيش والتقييم القضائيتين".
أضاف: "تشكّل التشكيلات القضائيّة إحدى أهمّ المناسبات للتدخّل في القضاء وبناء الولاءات السياسية. وكان يتوقّع من الاقتراح أن يقدم جوابا على الإشكالات المطروحة من خلال تكريس معايير دولية أهمها آلية تعيين محايدة، وإرساء مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلّا برضاه، فتح باب الترشيح للمراكز الشاغرة، فضلًا عن اعتماد معايير النزاهة والكفاءة. وقد بقيتْ الحلول الواردة في الاقتراح غير كافية بل وهميّة في أكثر من جانب وفي تعارض تام مع المعايير الدولية وفق ما نبيّنه أدناه.
أ- اشتراط أكثرية مضخّمة لأعضاء المجلس لتجاوز اعتراض وزير العدل على التعيينات
جاء في الاقتراح أنّه في حال الخلاف في وجهات النظر بين مجلس القضاء الأعلى ووزارة العدل، يحسم المجلس المشروع بأكثرية 7/10 “على أن يتم التصويت على كلّ مركز بمفرده”.
يعزز اشتراط غالبية 7 أعضاء لحسم المراكز المختلف عليها قدرة السلطة التنفيذية على فرض إرادتها. فنظرًا إلى أنّها صاحبة القرار بتعيين القضاة الـ 3 الحكميين داخل المجلس، يكفي أن يشغر أحد مراكز المجلس أو أن ينحاز أحد المنتخبين للحكميّين ليصبح تحقيق غالبية حسم غير ممكن، وفق ما حذرت منه لجنة البندقية. أي تعديل جدّي هنا يوجِب تخفيض غالبية الحسم إلى غالبية نسبية وإلّا سيكون بإمكان القوى السياسية تعطيل التشكيلات القضائية من خلال وزير العدل.
فضلًا عن أنّ إجراء التصويت على كلّ مركز على حدة قد يؤدي إلى مشروع غير قابل للتنفيذ. كأن تتوفر الغالبية المطلوبة لتعيين قاض في منصب ما من دون أن تتوفر الغالبية المطلوبة لتعيين القاضي الذي يشغله حاليًا، في منصب آخر. بذلك، قد نصل إلى استحالة إصدار المشروع بفعل استحالة تنفيذه.
كما يلحظ أنّ الاقتراح لا يحدّد آلية التصويت وتحديدًا ما إذا كان سرّيًا أو علنيًا. وهو أمر قد يؤثر هو الآخر على اتجاه التصويت.
ب- الإصرار على صدور التشكيلات بـ "مرسوم"
في حال تمكّن مجلس القضاء الأعلى من تجاوز اعتراضات وزير العدل، فإنّ مشروع التشكيلات قد يتعطّل مجددًا بفعل الفيتوات التي اعتاد على ممارستها المسؤولون (رؤساء ووزراء معنيون) الذين يفترض توقيعهم على المرسوم اللازم لإصدارها. رفضت اللجنة رغم مخاطر هذه الفيتوات ومفاعيلها التعطيلية (وأحيانًا التدميرية) على القضاء إلغاء مبدأ صدور المرسوم، وإن أدخلت موادّ تسمح بوضع التشكيلات موضع النفاذ في حال لم يصدر المرسوم في غضون شهر من ورود المشروع إلى ديوان وزارة العدل.
ولا يفهم تاليًا لماذا الإصرار على إبقاء مبدأ المرسوم طالما أنّ الاقتراح أفتى بإمكانية تجاوزه. وأكثر ما يُخشى هنا هو نشوء ممارسات غير قانونية لتعطيل ورود مشروع التشكيلات إلى ديوان وزارة العدل بطريقة أو بأخرى، منعًا لسريان مهلة الشهر.
ج- نسف مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلّا برضاه
في حين أنّ الاقتراح كرّس بوضوح هذا المبدأ (الذي هو من أهم معايير استقلالية القضاء)، عاد لينسفه أو يحدّ من مدى تطبيقه بشكل محسوس في موادّ أخرى منه. فبلفتة مستغربة، قررت لجنة الإدارة والعدل أنّ هذا المبدأ ينطبق “خارج التشكيلات القضائية” بما يجرّد القضاة من أي ضمانة في مشاريع وضعها. وعليه، لا نفهم أين يطبّق هذا المبدأ الذي انوجد تحديدًا كضابط على التشكيلات القضائية. هل ينطبق حصرًا على قرارات النقل الفردي؟ هل ينطبق على مشاريع التشكيلات الجزئية وهي مشاريع لا ينظمها الاقتراح إطلاقا؟
وحتى في الحالات الاستثنائية تلك، يبقى حسب الاقتراح بإمكان المجلس الأعلى للقضاء نسف هذا المبدأ وتاليًا نقل القاضي إلى مركز قضائي معيّن خلافًا لإرادته بمجرّد أن يثبت عدم توفّر عدد كافٍ من القضاة الذين يستوفون شروط التعيين في هذا المركز. وما يزيد من خطورة هذا الاستثناء على المبدأ هو أنه يحتمّل أن يصبح القاعدة العامّة بالنسبة إلى جميع المراكز الهامّة على ضوء الشروط التعجيزية التي وضعها الاقتراح للتعيين في هذه المراكز، ومنها اشتراط أن يكون القاضي قد تولّى لسنوات عدّة مراكز معينة في محافظات معيّنة ومنع غالبية القضاة من الترشح لمراكز جديدة خلال مدة تصل إلى 5 سنوات بعد تعيينهم في منصب معين وأيضا منع أي من القضاة أن يتولى أي مركز آخر في النيابة العامة لمدة ثانية.
ت- مبدأ نقل القاضي ولو من دون رضاه
غالبا ما يأتي مبدأ المداورة أي إمكانيّة نقل القاضي بعد مدّة من إشغال منصب معين ولو من دون رضاه، كأحد الضوابط على مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه. ورغم أن الاقتراح نسف هذا المبدأ كما سبق بيانه، فإنه بالمقابل كرس مبدأ المداورة جاعلا إياه مبدأ بوجوب نقل القاضي فور انتهاء المدة المذكورة بإرادة القانون. وقد ترافقت هذه القاعدة مع قاعدة أخرى لا تقل فداحة وهي حبس القضاة في مراكزهم لمدة معينة بحيث يمنع عليهم الترشّح لأيّ مركز آخر قد يشغر خلالها.
ث- نسف مبدأ الترشّح للمناصب الهامة
كرّس الاقتراح مبدأ ترشح القضاة للمراكز القضائية بعد انتهاء خدمتهم في المراكز التي عينوا فيها. لكنه وضع شروطا تعجيزية كما سبق بيانه، تؤدي عمليا إلى عدم وجود أشخاص مؤهلين للترشح لأكثر المراكز القضائية الهامة. ومؤدى ذلك هو إعطاء مجلس القضاء الأعلى استنسابية تسمح له بتجاوز مجمل المعايير الموضوعة للتشكيلات.
وتابع: "أخيرا، تمّ خلق وظيفة قضائية هجينة هي وظيفة قاضي المهمة وهو قاضٍ لا يُعيّن في مركز محدّد بل يكون من الممكن انتدابه لأيّ وظيفة عند الحاجة. ويشير الاقتراح إلى إمكانية أن يبلغ عدد قضاة المهمة 5% من القضاة. ومن شأن كل ذلك أن يجعل استقلالية القضاء في هذه المراكز بالغة الهشاشة. وأكثر ما يخشى هنا هو استخدام قضاة هذه الفئة بمثابة "جوكر" لخدمة مصالح القوى النافذة في القضايا التي تهمها، وذلك من خلال تنصيبهم في هيئات تعاني من شواغر وهيئات يتنحى أو يُنحَّى أعضاء منها بفعل ضغوط سياسية وإعلامية. لا يسعنا إلا التأكيد على خطورة هذه الممارسة في الوضع اللبناني الحالي".
وأردف: "يرشح الاقتراح عن نفس تمييزي بين كبار القضاة والفئات العمرية الشبابية، وأيضا بين رؤساء الغرف والمستشارين فيها، كما أنه يترك الطريق مفتوحا أمام تعيين القضاة في لجان لقاء بدل خاص بها من دون ضوابط. كما أنه يسمح بانتداب قضاة إلى بعض الإدارات (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والهيئة العليا للتأديب) مخولا إياهم في هذه الحالات تلقي راتبا من الجهة التي انتدبوا إليها بالإضافة إلى راتبهم الأساسي في القضاء. وهذا ما حذرت منه أيضا لجنة البندقية".
وقال: "يجافي الاقتراح العديد من الضمانات الأساسية المكرسة دوليّا للقضاة. وأبرز الثغرات في هذا المجال الآتية:
إنّه لا يضع أي قواعد ضامنة للاستقلالية المالية أو للحقوق الأساسية (صحة، تعليم، سكن وإلخ)، مما يشكل أمرًا خطيًرا وبخاصة في ظلّ انهيار قيمة الراتب بشكل كامل.
إنه لا يقر مبدأ عدم جواز نقل القضاة إلا برضاه إلا بصورة لفظية غير صحيحة.
إنّه يضيق حرية القضاة في إنشاء جمعيات والذي يشكل ضمانة لاستقلاليّتهم. فقد اشترط الاقتراح ألّا يكون موضوع الجمعية متعارضا مع صلاحيات مجلس القضاء الأعلى. هذا الأمر خطير وغير مبرر. وما يزيد من خطورة هذا الأمر أن الاقتراح وضع ضمن صلاحيات المجلس السهر على “الحقوق المعنوية والمادية للقضاة” و”كل ما يتصل باستقلال القضاة”، الأمر الذي يحصر حرية تأسيس جمعيات للقضاة بحرية إنشاء نوادٍ ترفيهية أو ثقافية من دون أي مضمون حقوقي. وهذا ما حذرت منه لجنة البندقية.
إنه يخول مجلس القضاء الأعلى عزل قاض (من خلال إعلان عدم أهليته) من دون تعريف عدم الأهلية ومن دون تمكين القاضي من الدفاع عن نفسه. وهذا أيضًا ما حذرت منه لجنة البندقية.
إنه يترك القاضي عرضة لملاحقة تأديبية على أساس نصوص مطّاطة خلافًا لمبدأيْ شرعية العقوبة ومدى تناسب العقوبة مع خطورتها. وهذا أيضًا ما حذّرت منه لجنة البندقية.
إنه لا يقرّ للقضاة في القضايا التأديبية ضمانة المحاكمة العادلة باللجوء إلى محاكمة على درجتين، بصورة تخالف صراحة القرار الدستوري رقم 5/2000 الذي اعتبر حق الدفاع شرطًا من شروط الاستقلالية.
أضاف: "سعى الاقتراح الأساسي الذي أعدّته المفكرة القانونية وتبنّاه ائتلاف استقلال القضاء إلى ضمان المساواة بين المرشحين لدخول القضاء أو معهد الدروس القضائية من خلال حظر استبعاد أي مرشّح بطريقة اعتباطية ووضع شروط عادلة للمباراة، إلا أن اقتراح لجنة الإدارة والعدل ذهب للأسف إلى العكس تماما بحيث انتهى إلى إعطاء المجلس الأعلى للقضاء فرصًا إضافية لاستبعاد مرشّحين بقرارات غير مبنية على أيّة معايير موضوعية ومن دون أن يكون لهؤلاء أيّ حق بالطعن فيها. وقد تمّ ذلك من خلال وضع شرط إضافي للترشّح للدخول إلى معهد الدروس القضائية، وهو أن يكون المرشح قد نجح في سنة تحضيرية، علما أن قبول الطلبات للاشتراك في السنة التحضيرية هو أيضا يخضع لقرار استنسابي تتخذه اللجنة الفاحصة المعينة من مجلس إدارة معهد الدروس القضائية بعد إجراء مقابلة شفهية معهم. كما يكون لمجلس القضاء الأعلى قرار استبعاد أي مرشح لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية بناء على مقابلة شفهية أخرى. ومن الأنسب ضمانا للمساواة أن يكون الالتحاق بالسنة التمهيدية بناء على معايير موضوعية كالحصول على شهادة جامعية معينة وأن لا يكون النجاح في هذه السنة التمهيدية بأية حال شرطا للترشح لمباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية.
أخطر ممّا تقدم، أنه في مقابل تمديد مهلة دخول القضاء من خلال المعهد إلى ما يقارب 4 سنوات، عاد الاقتراح ليفتح طريقًا سريعًا أمام تعيين قضاة أصيلين من بين محامين ومساعدين قضائيين وذلك بموجب مباراة، ومن دون وضع ضوابط لانتقائهم (ولا حتى المقابلة الشفهية) سوى تمتعهم بأقدمية 10 سنوات. وما يزيد من خطورة الأمر هو عدم وضع حدّ أقصى لعدد القضاة الذين جاز توظيفهم بهذه الطريقة. ويخشى أن يؤدّي هذا الأمر إلى إدخال عشرات القضاة الجدد من المحسوبين على الفئات السياسية بما يعوّض عن الاستقالات الحاصلة داخل القضاء حاليًا.
وختم: "لهذه الأسباب كافة، وإذ نرى أنّ اقتراح القانون لا يحقق في صيغته الحاليّة الأهداف المنشودة منه ويوفر آليات لاستتباع القضاة أكثر ممّا يوفر ضمانات لاستقلاليتهم، وبالنظر إلى كيفية إجراء المناقشات في الهيئة العامة للمجلس النيابي بطريقة لا تخلو من التسرّع، فإننا نعلن رفضنا لمضمون الاقتراح، طالبين أن يصار إلى إعادته إلى اللجان المشتركة مع توصية صريحة لمواءمته مع المعايير الدولية لاستقلالية القضاء، في جلسة مناقشة علنية قبل مناقشته مجددا في الهيئة العامة لمجلس النواب".