حسابات المكاسب والمخاطر في موقف الإدارة الأميركية من الحرب بغزة
منذ اليوم الأول للحرب، أظهرت إدارة بايدن دعماً استثنائياً لإسرائيل على المستويات السياسية والدبلوماسية والعسكرية كافة، وروجت لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وساندت حكومة نتنياهو في أهدافها لتدمير «حماس» وبنيتها العسكرية، وأمدت إسرائيل بأسلحة متطورة ومساعدات عسكرية غير مسبوقة، واتخذت خطوات عسكرية مكثفة لمنع تصعيد الحرب شملت ضربات إلى وكلاء إيران في سوريا، ونشر حاملتي طائرات وغواصة تعمل بالطاقة النووية في المنطقة، واصطفت مع إسرائيل في رفض الدعوات الأممية والدولية والعربية لوقف إطلاق النار إلا بعد إطلاق سراح جميع الرهائن، وفي اتهام «حماس» بأخذ المدنيين في غزة دروعاً بشرية. وعرقلت الجهود في مجلس الأمن لاستصدار قرار لوقف إطلاق النار في غزة وحماية المدنيين.
وقد جعلت هذه الحرب كل دول العالم تقف على أعصابها في حالة من الترقب والقلق حول الكيفية التي تسير بها هذه الحرب غير المتكافئة، والوحشية الإسرائيلية التي تحمل شبهة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وتطهير عرقي ونزوح قسري والطريقة التي يمكن إنهاؤها والخطط لما بعد انتهاء الحرب.
ومع مخاطر توسع الحرب في المنطقة، وانتشار الغضب عبر عواصم العالم في مظاهرات بأعداد غير مسبوقة، فإن التساؤل المطروح ما الذي يمكن أن يقدم عليه الرئيس الأميركي جو بايدن، وهو الأكثر قدرة على كبح جماح إسرائيل واستخدام ثقله السياسي في فرض وقف لإطلاق النار، وإرساء السلام في مرحلة ما بعد «حماس» واستئناف عملية سياسية تحقق للفلسطينيين بعض الحقوق، وتقوم الإدارة الأميركية بتنفيذ وعودها بالمضي في مسار حل الدولتين. لكن للولايات المتحدة حسابات مكاسب وخسائر في هذه الحرب وتطور الأحداث تفرض عليها مراجعة هذه الحسابات بدقة.
حسابات المكاسب
الولايات المتحدة اتفقت في أهدافها مع هدف إسرائيل في تفكيك «حماس»، تدمير بنيتها العسكرية وتقليص علاقاتها بإيران وغيرها من فصائل المقاومة. ويدرك القادة العسكريون أن هذا الهدف يستغرق وقتاً، وله تكلفة عالية. وتعطي إدارة بايدن الضوء الأخضر لتحقيق هذه الأهداف لكنها شددت في دعوتها لإسرائيل على تجنب سقوط ضحايا من المدنيين «قدر الإمكان»، وهذه الدعوة وإن بدت دعوة لحماية حياة سكان غزة إلا أنها أيضاً دعوة للجيش الإسرائيلي للتأني والتخطيط بدقه دون تهور يؤدي إلى خسائر في صفوف العسكريين الإسرائيليين داخل غزة.
ورغم الضغوط المتعددة التي يواجهها بايدن داخلياً وخارجياً، فإنه يدرك أن وقف إطلاق النار لا يعني هزيمة إسرائيل فحسب، بل يعني أيضاً هزيمة الولايات المتحدة التي تواجه العديد من التهديدات الإيرانية والإرهابية نفسها.
ويتمتع بايدن بشعبية كبيرة في إسرائيل بوصفه أهم حليف لإسرائيل وأهم داعم لها، خاصة بعد زيارته لتل أبيب ومشاركته - في سابقة عير معهودة - في اجتماعات حكومة الحرب التي يقودها بنيامين نتنياهو. ويقول المحللون إن بإمكان بايدن استخدام هذا النفوذ السياسي في الضغط لتنفيذ مبادرات مهمة، خاصة أن حياة عشرات الآلاف في كل من إسرائيل وغزة أصبحت على المحك.
ومن المؤكد أن إدارة بايدن ستسمح لإسرائيل بتحقيق بعض الإنجازات وتوجيه ضربة قاصمة لـ«حماس» بما يحقق لإسرائيل الترويج للنصر في حربها ثم تطالبها بتمديد الهدن الإنسانية إلى أن تصل إلى طلب وقف إطلاق النار.
ويقول المحللون إن نتنياهو يريد الاستمرار في الحرب ويروج أن وقف إطلاق النار يعني انتصار «حماس»، ويقيد يد إسرائيل في مواجهة تهديدات أخرى في الجبهة الشمالية مع «حزب الله»، لكنه أيضاً يهدد مستقبله السياسي وما ينتظره من تحقيقات تتعلق بالإخفاق في توقع هجوم «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وما يتعلق بالاتهامات بالفساد التي تواجهه. وهو أيضاً ما يمكن أن يدخل في حسابات المكاسب الأميركية فالدعم المتواصل لرئيس الوزراء الإسرائيلي يمكن أن ينتهي بانتهاء المعركة وترك نتنياهو يواجه مصيره مع القضايا والتحقيقات والاتهامات.
وتتوقع الحسابات الأميركية أنه سيكون لإسرائيل زعيم جديد بعد الحرب وهي تأمل أن يدرك هذا الشخص الجديد أن السبيل الوحيد للحفاظ على سلامة الإسرائيليين هو التوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين
بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية يرون أن فرص تحقيق سلام إسرائيلي فلسطيني مواتية بعد الحرب، وفريق آخر يريد إتاحة الوقت وتهيئة الساحة لظهور قيادات أخرى، حيث يفتقر الجانبان (الإسرائيلي والفلسطيني) لزعماء يتمتعون بالمصداقية، ولذا تحسب إدارة بايدن حسابات خلق الظروف التي من شأنها أن تشجع على ظهور قادة قادرين على اتخذا قرارات قوية ومؤيدة للسلام بعد انتهاء الحرب.
البراغماتية الأميركية
وباركت واشنطن العمليات العسكرية الإسرائيلية لاستهداف قادة «حماس»، وتدمير البنية التحتية العسكرية للحركة لكنها اتجهت مؤخراً إلى القيام بها بشكل أكثر دقة دون تدمير غزة وتحويل أحيائها بالكامل إلى أنقاض، ونصحت إسرائيل باستخدام قنابل أصغر حجماً في أعقاب استخدام قنابل تزن أكثر من ألف رطل في استهداف مخيم جباليا، ثم ضغطت للسماح بهدنة إنسانية انخفضت من مطلب أن تستمر ثلاثة أيام ثم 12 ساعة وانتهت بهدنة تكتيكية لمدة أربع ساعات.
ومن أولويات إدارة بايدن إنجاح مفاوضات إطلاق سراح الرهائن، وهو الملف الذي أخذ جانباً كبيراً من العمليات الاستخباراتية والدبلوماسية والجولات المكوكية لكبار المسؤولين الأميركيين بدأت بجولات وزير الخارجية أنتوني بلينكن ثم مدير الاستخبارات الأميركية ويليام بيرنز، ثم الزيارة المرتقبة لمنسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك، الذي يصل إسرائيل يوم الثلاثاء في إطار زيارة لعدة دول للتوصل إلى اتفاق يضمن إطلاق سراح العديد من الرهائن الذين تحتجزهم «حماس» في غزة.
وسيزور ماكغورك بروكسل أولاً لإجراء محادثات مع مسؤولي حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوربي ثم يزور إسرائيل ويلتقي برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يواف غالانت، ومسؤولي الأمن والاستخبارات ثم يسافر بعدها إلى الأردن والمملكة العربية السعودية وقطر والبحرين. وقد رفض البيت الأبيض التعليق على الأنباء التي تحدثت عن اتفاق يمكن أن يؤدي إلى إطلاق سراح 80 من الرهائن معظمهم من النساء والأطفال المحتجزين لدى «حماس» و«الجهاد».
وإذا نجحت واشنطن في تأمين هذه الصفقة، فإنها ستحقق لإدارة بايدن نصراً سياسياً يمكن استغلاله بقوة في وجه المظاهرات الغاضبة وفي وجه الانتقادات الدولية والأممية، وفي وجه التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، وستعزز حظوظه في حملته الانتخابية والترويج أنه يحمي كل أميركي في الداخل وفي الخارج.
ولتهدئة المجتمع الدولي والغضب الفلسطيني وتشجيع بعض القيادات الفلسطينية للعمل مع الإدارة الأميركية يطرح المسؤولون الأميركيون بعض الأفكار لامتصاص الغضب، ومنها إطلاق تصريحات علنية بضرورة كبح جماح عنف المستوطنين ووقف بناء المستوطنات، وإرسال إشارات مثل الإعداد لخطوات عادة فتح القنصلية الأميركية في القدس «في القريب العاجل». وأن تقوم بخطوة الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن في الأمم المتحدة على قرارات تدعو لوقف إطلاق النار بدلاً من استخدام حق الفيتو.
حسابات المخاطر
صبر الولايات المتحدة على إسرائيل في حرب غزة لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، في ظل الأعداد المهولة من الضحايا المدنيين مع دخول الحرب شهرها الثاني والاستعداد داخلياً لمعركة انتخابية شرسة يتبقى لها 12 شهراّ. ولا يريد بايدن أن يخوض معركة وهو يحمل في رقبته ثقل الفشل الأميركي في أفغانستان، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية دون بارقة أمل في إنهائها، ثم الحرب الإسرائيلية ضد «حماس» التي تجلب المخاطر من كل حدب وصوب.
المسؤولية الأخلاقية مع سقوط أكثر من 11 ألف مدني بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل على المدنيين وحصار المستشفيات وقطع سبل توصيل المساعدات تحت تعنت إسرائيل، كلها تلقي بالعبء على الولايات المتحدة التي طالما نادت بالقيم الأخلاقية والمبادي الديمقراطية. ولا يقتصر الأمر على المدنيين في غزة ومعظمهم من الأطفال والنساء، وإنما تشير الإحصاءات إلى مقتل 100 من موظفي الأمم المتحدة إلى جانب مقتل 30 صحافياً. وتتزايد الاتهامات ضد الولايات المتحدة بالتواطؤ وتزويد إسرائيل بالقنابل وقذائف المدفعية التي تقتل بها إسرائيل الأبرياء.
وأشارت نتائج التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتصويت 120 دولة لصالح وقف إطلاق النار إلى عزلة الولايات المتحدة على المسرح الدولي مع تحول الموقف الفرنسي بشكل كبير إلى الخروج من عباءة الولايات المتحدة، والمطالبة بقوة بوقف إطلاق النار وتحذيرات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بوحشية القصف الإسرائيلي الذي جعل غزة مقبرة للأطفال. ثم البيان القوي للقمة العربية الإسلامية المشتركة التي أثار مخاوف البيت الأبيض من ابتعاد دول المنطقة عن الولايات المتحدة، وتزايد التقارب السعودي الإيراني، والتقارب العربي والاسلامي مع كل من روسيا والصين، إضافة إلى تعقد، وربما تجمد مسارات السلام التي حلمت إدارة بايدن بتحقيق إنجاز سياسي تاريخي في إبرام مزيد من اتفاقات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. وربما تحمل المخاطر تهديد الاتفاقات المبرمة بالفعل.
الانقسام الأميركي
جاء بايدن إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021 بوعود إعادة وحدة المجتمع الأميركي بعد حالة الانقسام والاستقطاب الذي أحدثه الرئيس السابق دونالد ترمب، لكنه يواجه حالياً اتهامات أكثر خطوة بتقسيم المجتمع الأميركي بين معسكر يدعم إسرائيل بقوة وحدة، ومعسكر آخر يدعم الفلسطينيين وظهر ذلك جلياً في المشاحنات والمصادمات بين طلبة الجامعات الأميركية.
وظهر الانقسام أيضاً في أروقة الخارجية الأميركية باستقالة مسؤول كبير اعتراضاً على السياسة الأميركية في حرب إسرائيل ضد غزة وداخل مجتمع الاستخبارات الأميركية، وبصورة غير ظاهرة بين صفوف القادة العسكريين، والقلق من تزايد الهجمات ضد المصالح والجنود الأميركيين في كل من سوريا والعراق التي بلغت أكثر من 40 هجوماً خلال أسبوعين.
ويظهر الانقسام واضحاً داخل الحزب الديمقراطي مع الانتقادات القادمة من الجناح الأيسر داخل الحزب، والتي دعت إلى وقف إطلاق النار ومنهم السيناتور بيرني ساندرز واليزابيت وارن وغيرهم.
ومن المخاطر التي تثير قلق بايدن بشكل خاص هي نتائج استطلاعات الرأي التي تشير إلى فقدانه أصوات الأميركيين العرب وفقدان أصوات جانب كبير من الشباب في الانتخابات الرئاسية العام المقبل، إضافة إلى الاستطلاعات بتراجع شعبيته في عدد من الولايات المتأرجحة.
مخاطر جيوسياسية
وفي حين ينظر إلى إسرائيل أنها أكبر قوة عسكرية إقليمية يقول المحللون إنها حتى لو نجحت إسرائيل في السيطرة على قطاع غزة فإن المقاومة الفلسطينية ستستمر وتكبر، وربما تكون أكثر دموية. وتثار مخاوف من ظهور حركات أخرى يمينية أكثر تشدداً من «حماس».
وقد حذر المحللون من خطأ التغاضي الأميركي عن العنف الذي يمارسه المستوطنون في الضفة الغربية الذين يستغلون الاهتمام الدولي بالحرب في غزة بممارسة مزيد من عمليات الاستيلاء على الأراضي. وقال المحللون إن ذلك قد يؤدي إلى انفجار أعمال عنف واسعة في الضفة الغربية قد تكون أكثر دموية وتدميراً من الانتفاضات السابقة. وقد صرح بايدن أن ما يحدث في الضفة الغربية يشبه صب البنزين على النار. واتخذت الإدارة الأميركية خطوة غير معتادة بالسعي والحصول على ضمانات من إسرائيل بأن أياً من آلاف الأسلحة الهجومية الأميركية التي طلبتها إسرائيل لن تذهب إلى المدنيين في مستوطنات الضفة الغربية. ومع ذلك، لم يُظهر نتنياهو سوى القليل من الاهتمام بكبح جماح حلفائه داخل حكومته الائتلافية من مثل سموتريتش وبن غفير، وكلاهما من المدافعين عن توطين اليهود في الضفة الغربية.
يسعى نتنياهو إلى استغلال الحرب ضد «حماس» في إطالة الفترة التي يمكن أن يتجنب فيها مواجهة الأسئلة الصعبة حول الفشل في منع هجوم «حماس» في 7 أكتوبر، وهو يصر أن الحرب ضد «حماس» قد تستغرق أسابيع وشهوراً، ويحاول الترويج لنفسه داخل المجتمع الأميركي في لقاءات لعدد من الشبكات الإخبارية الأميركية وفد دفع منظمات اللوبي اليهودي للضغط على إدارة بايدن وإثارة المخاوف من تزايد معاداة السامية ومن خلف الستار هناك مخاوف أن يقوم نتنياهو - إذا شعر باقتراب نهايته - باستغلال المناوشات عند الجبهة الشمالية بين «حزب الله» والقوات الإسرائيلية في استغلال خطأ أو سوء تقدير يشعل حرباً مع «حزب الله» وإيران من خلفه.
وكل حسابات المكاسب والمخاطر والأهداف البراغماتية والسياسية والانتخابية ستحكم كيف سيكتب التاريخ هذه الأحداث، وماذا سيكون إرث الرئيس الأميركي جو بايدن وصورة الولايات المتحدة من الناحية الأخلاقية.