"فوضى" الدولة!
بقلم عبد الحميد عجم
في أواخر القرن الماضي، إنتشرت في معظم دول العالم حالة أطلق عليها تسمية "الفوضويين" الذين كانوا يطالبون بإعادة النظر في كلّ شؤون وشجون الدول، إضافة إلى القيم الأخلاقية والإجتماعية، إضافة إلى نسف العادات والتقاليد من جذورها..وكلّ ذلك كان يندرج تحت باب الدعوة إلى التغيير.مع الوقت، تراجعت هذه الحركات لمصلحة الدولة المركزية التي تعنى بقضايا الناس، وتحاول أن تعدل فيما بينهم، وأن تميّز بين الخير والشرّ، بين الخاص والعام، بين ما هم ملك لجميع الناس، وبين ما يعود لكلّ فرد من أفراد المجتمع.الدولة هي العقل والناظم والنظام في آن واحد..
هذا كان حتى في لبنان على ضعف تكوين الدولة التاريخي بحكم تعدّد الطوائف والمراجع والمرجعيّات والإرتباط الدائم بالخارج، أكان شرقاً أو غربا، أكان مصر العروبة أو فرنسا الأمّ الحنون..ولكن، أين نحن اليوم من كلّ هذه المعايير التي جعلت من لبنان، تارة "قطعة من السما"، وطوراً "نيّال مَن له مرقد عنزة فيه"، ومن ثمّ جعلت منه ساحة صنّفها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بالإختيار ما بين "هانوي أو هونغ كونغ" في إشارة الى الإختيار ما بين الحرب والسلام، أو بين الدمار والموت وبين العمران وثقافة الحياة!
ضاع لبنان، وضاعت الدولة معه، ليس على المستوى السياسي الوطني فقط، كما في التسليم الرسمي المطلق لدويلة حزب الله في السلم والحرب، وفي الإرتباط بمحور طهران – غزّة – دول الممانعة، وإنّما حتّى في التعاطي على مستوى المؤسسات القائمة، حيث بات كلّ وزير "سلطان" وزارته، يوظّف من يشاء، ويقيل من يشاء، ويعيّن من يشاء، وصولاً الى التمييز الفاقع بين موظفي الدولة الواحدة، حيث بات هناك موظفون "أولاد ست" وموظفون "أولاد جارية"، بكلّ ما تحمله هذه التعابير من معنى حقيقي لا مجازي..وإلّا كيف يمكن تفسير ما يلي؟
-بدل النقل بات في المؤسسات الخاصة (450 ألف ليرة لبنانية عن كلّ يوم عمل) أعلى من الحدّ الأدنى للأجور المعمول به والذي لا يتجاوز المليوني ليرة في الشهر!
-وزارة المال (أي مزرعة الرئيس نبيه برّي) توزعّ على 500 من موظفيها مبلغاً قيمته 32 مليون دولار، وقد اقترضته من البنك الدولي لهذه الغاية، فيما باقي موظفي الدوائر الرسمية يستمرّون في إضرابهم المفتوح مطالبين بإعادة النظر برواتبهم (مع الزيادات التي أضيفت إليها) التي تكاد لا تكفي إشتراك المولّد وفاتورة كهرباء لبنان، ليس إلّا!
-رئاسة الحكومة (مزرعة الرئيس نجيب ميقاتي حاليّاً) توافقت مع وزارة المالية على تخصيص موظّفي التفتيش المركزي وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية والمديرية العامة لرئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء بما أسمته "فائض إعتمادات المساعدات الإجتماعيّة التي جرى تدويرها من موازنة العام 2023"!
-مؤسّسة الريجي لا تكتفي بالدفع لموظفيها بالدولار، بل منحت جميع العاملين فيها (ومعظمهم لا يعملون) زيادات كبيرة على المعاشات الشهرية.
-موظّفو شركتي الخليوي أعلنوا الإضراب وحصلوا على ما يريدون..وهكذا الحال مع دكاترة الجامعة اللبنانية ومع القضاة والمساعدين القضائيين، ومع الكثيرين من الموظفين التابعين لدوائر ومؤسسات محظيّة، محسوبة على هذا المرجع أوذاك، فيما باقي الموظفين والمتقاعدين يطالبون بتحسين أوضاعهم بما يوفّر لهم القدرة على الإستمرار في مواجهة أعباء العيش الكريم!
"حارة كل مين إيدو إلو"، هذا ما ينطبق على أداء كبار رجالات الدولة، وفي أحسن الأحوال "إمارات" لا يسودها العدل والمساواة، بل تعمّ فيها الفوضى غير البنّاءة والتي تجرف البلد، بخطى سريعة، نحو الهاوية..ما بعد بعد جهنّم!!