التمسك بفلسطين

خاص مراسل نيوز

التمسك بفلسطين


 
 
"يريد هوية فيصاب بالبركان سافرت الغيوم وشردتني ورمت معاطفها الجبال وخبأتني"
محمود درويش
من مقالة الحقيقة من فلسطين 1891 قال آحاد هاعام، وهو الإسم المستعار لأشيرتفي غينزبرغ "كانوا عبيداً في بلاد "الدياسبورا"، وفجأة وجدوا انفسهم وسط حرية بلا حدود، بل وسط حرية لا رادع لها ولا يمكن العثور عليها الا في تركيا وحدها. لقد ولد هذا التحول المفاجئ في نفوسهم ميلاً الى الاستبداد، كما هي الحال عندما يصبح العبد سيداً، وهم يعاملون العرب بروح العداء والشراسة فيمتهنون حقوقهم بصورة معوجة ولا معقولة، ويوجهون اليهم الإهانات من دون مبرر ويفاخرون بأفعالهم رغم كل ذلك، نحن كيهود نفكر أن العرب كلهم من الوحوش الهمج الذين يعيشون كالحيوانات ولا يفقهون ما يدور. لقد اعتقدنا أن العرب بدائيون يعيشون في الصحراء وأنهم لا يفهمون ما نبتغيه من فلسطين. هم يقابلون هذا العمل بعمل مضاد ويتظاهرون بأنهم لا يلاحظون شيئاً لأنهم لا يرون في الوقت الحاضر فيما نفعله الآن اي تهديد لهم في المستقبل. ولكن اذا ما تطور الأمر في فلسطين الى درجة زحفنا على المجال الحيوي للمواطنين الأصليين فانهم لن يتخلوا عن مكانهم بسهولة".
عن كذبة "أرض بلا شعب"
سنة 1843 اطلق رجل الدين المسيحي "أنطوني أشلي كوبر" شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ومن بعده تبناه "ثيودور هرتزل" كتعبير عن حاجة اليهود كشعب مشرد الى أرض خالية من السكان لتصبح وطنهم. أصر آباء الصهيونية، وجلهم من العلمانيين، على أرض فلسطين لما تحمله من ايحاءات دينية وتاريخية لليهود.
ليس جديداً على الصهيونية مبدأ إنكار الوقائع التاريخية في سبيل تحقيق أهدافها. أما الأكذوبة التاريخية الكبرى فهي، وبغض النظر عن الرواية التوراتية، ما يحاول الكثيرون من الصهاينة تأكيده وهو أن فلسطين قبل استعمارها من قبل اليهود في أواخر القرن العشرين كانت ارضاً خالية من السكان، أو على الاقل من المواطنين، باعتبار ان معظم السكان كانوا من البدو الرحل الذين لا أرض لهم. هذه الأكذوبة طبعاً تدحضها الوقائع التاريخية بوجود المئات من المدن والقرى ذات الطابع التاريخي اسماً وموقعاً. وهذا يؤكد تجذر هذا الوجود على المستوى المديني. أما في الريف، فقد أكدت الرسائل والأدبيات اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر بأن المستعمرين اليهود كانوا يستعينون بالخبراء في الزراعة من السكان المحليين لإنشاء الزراعات المتعددة في المستوطنات. وهذا بالطبع يؤكد الوجود الراسخ للسكان الاصليين في الريف وعلاقتهم مع الأرض من خلال خبرتهم وممارستهم للزراعة. وحتى لو عدنا الى الرواية التوراتية لكان واضحاً أنه كان على اليهود القتال مقابل كل شبر من ارض الميعاد في مواجهة السكان الذين سبقوهم الى استيطان أرض فلسطين، وأن مملكة داوود لم تكن موجودة أساساً كما استنتج الباحثون اليهود نفسهم.
لقد بقيت سياسة انكار وجود الفلسطينيين السياسة التي أصر عليها الصهاينة كما يتبين من تصريح "غولدا مائير"، رئيسة وزراء العدو سنة 1969 الى صحيفة "الصنداي تايمز" قائلة "لا يوجد شعب فلسطيني، وهذا يعني اننا لم نطردهم لأخذ أراضيهم، انهم غير موجودين".
وكثيراً ما يلجأ الصهاينة، وأكثرهم من غير المتدينيين أصلاً، الى النصوص التوارتية، التي تستند الى ما جاء في سفر التكوين (15 ـ 18 ـ 21) حول وعد الرب لابراهيم "لنسلكم أعط هذه البلاط، من نهر النيل، حتى النهر العظيم، نهر الفرات".
ومع أن أكثر من 80% من شعب إسرائيل هم غير متدينين، فإن معظمهم يستند الى هذا الوعد لإثبات شرعيته في احتلال فلسطين. وقد فسر "ناتان واينتشوك" هذه المفارقة في كتاب له بعنوان "الصهيونية ضد إسرائيل"، كما يلي: "إذا كانت الظلامية الحاخامية قد انتصرت في إسرائيل فذلك لأن الخرافة الصهيونية لا يمكن أن تتماسك إلا بالعودة الى الطرح الديني. أحذفوا مفاهيم الشعب المختار، وأرض الميعاد فينهار أساس الصهيونية". ومن هنا ينبع التواطؤ بين الحركة الصهيونية التي نشأت بالأساس على مبادئ قومية وعلمانية وبين المنظومة الدينية اليهودية، وهذا ما يفسر الامتيازات التي تتمتع بها الأقلية المتدينة في إسرائيل.
فبغياب أية مؤشرات منطقية على الحق التاريخي لليهود باستعمار فلسطين، ركز دعاة الصهيونية على النص التوراتي، وبعضهم كان في السابق يدعو اليهود الى التخلي عن دينهم والاندماج في المجتمع الأوروبي (موشي هس). ولكن فوائد اعتماد المنطق التوراتي برزت بوضوح لاحقاً من خلال الدعم اللامحدود الذي أعطاه الشعب الأميركي لوجود إسرائيل. ففي احصاءات معروفة ما زال نصف الأميركيين يؤمنون بقصص التوراة كما أتت بشكل كامل (عام 1950 أكثر من ثلاثة أرباع شعب أميركا كان يؤمن بقصص التوراة على كونها حقيقة تاريخية). وهذا يعني أن هذا الدعم ليس مبنياً عند العموم على المبادئ الامبريالية ودعم العدوان والانتصار للظلم كما نعتقد نحن، بل لأسباب دينية عقائدية تجعل من دعم إسرائيل واجباً أساسياً لدى الكثيرين من الناخبين الأميركيين، وهناك جزء من الباقين من أصحاب الايمان الملتبس الذين يعتبرون إسرائيل رمزاً للديموقراطية خاصة إذا ما قورنت بالأنظمة العربية المختلفة المحيطة بها. هذا بالاضافة الى ان صورة العربي بالاجمال بقيت مقرونة بالتخلف والتعصب والغدر. هذا لا يعني بالطبع أن صناع القرار في أمريكا عقائديون ملتزمون، لكنهم يستعملون أي شيء له طابع شعبوي لتأمين سيطرتهم السياسية. كما أن إسرائيل أصبحت قاعدة عسكرية متقدمة منذ ستينات القرن الماضي، جعلت من عدم استقرار الشرق الأوسط مساراً يومياً حكم فيه الديكتاتوريات ومنع التقدم والازدهار وشغل الناس في التحضير الدائم للمعركة القادمة. من هنا فإن إسرائيل أصبحت ولاية إضافية أمريكية. وعلينا التعامل مع الأمر على هذا الأساس، وهذا ما أقنع بالفعل الدول العربية التي اختارت التطبيع على السير به، إضافة إلى سقوط الخيارات العنيفة الأخرى بفعل ضيق الحال والفشل. وحتى النجاح العنيف الجزئي تم استخدامه لإطالة الصراع ومنع الحلول التي تؤمن الاستقرار، وكلما انطلقت حرب اعتبرت نوعا من النجاح لمعسكرها في أمريكا وإسرائيل.

في العام 1987، أجبرت انتفاضة الحجارة إسرائيل والعالم على الاعتراف بالشعب الفلسطيني على الرغم من تآمر الإخوة قبل الأعداء لتصفية كل ما هو فلسطيني. لكن ثمار تلك الانتفاضة التي أنتجت مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو تم تدميرها بفعل التطرفين اليهودي والإسلامي. واليوم ما يحصل بغزة من مجازر هو نتيجة استباق احتمالات الحلول المنطقية، وإن لم تكن العادلة. لكن، قريبًا ستتوقف الحرب مهما طالت، وبغض النظر عمن سيرفع شارة النصر، ستبقى قضية الإنسان الفلسطيني هي الأساس، وليس الشعارات ولا البطولات.  
من الواضح اليوم، ورغم كل المحاولات المشتركة بين الاعداء والأصدقاء لتذويب هذه القضية فإن فلسطين بقيت أمراً واقعاً عالمياً علينا التمسك به ورعايته وحمايته من التعصب والإرهاب، لأن ما أعاد فلسطين الى الخارطة من جديد، بالاضافة لتمسك الفلسطينيين بأرضهم وحقهم، هو الخطاب المتوازن والذكي الذي ركز على الحق والسعي الى السلام والاستقرار، أما هدف نتنياهو اليوم بمساره الوحشي فهو دفع الأمور إلى المكان الذي ينقذ أمثاله، ويؤخر الحلول الممكنة لإحلال السلام ويعطي الفلسطيني جزءا من حقه.
قد يكون الكلام هذا خارج السياق، فالدم الفلسطيني مستباح، وقد يكون التعقل في هذه اللحظة نوعا من الجنون، لكن، لنفكر قليلا بحكمة في لحظات الجنون.
مصطفى علوش