إسرائيل وتجارة المحرقة

بقلم د. مصطفى علوش

إسرائيل وتجارة المحرقة

"ألا أيها الظالم المستبد حبيب الظلام عدو الحياه

سخرت بأنات شعب ضعيف وكفك مصبوغة من دماه

وصرت تشوه سحر الوجود وتبذر شوك الأسى في رباه"

أبو القاسم الشابي

لا أريد مما يلي أن اوحي بأنني أقلل من شأن مسالة المحرقة، فهي بالنسبة لي أنا العربي الملتزم بحق الفلسطينيين بأرضهم، كل أرضهم، وبعدم شرعية إسرائيل كدولة يهودية، أعتبر أن تلك المحرقة وصمة عار على جبين البشرية من الناحية الأخلاقية، ومن مظاهر السقوط البشري استصغارها أو الشماتة بضحاياها لأية أسباب كانت. لكن التعاطف مع الضحايا واستنكار العمل والتنديد بالمجردين شيء، أما المتاجرة بالمحرقة واستخدامها لأهداف سياسية وتحويل محتواها لاضطهاد شعب فلسطين فهو سقوط أخلاقي مشابه لفعل المحرقة. روجيه غارودي، المفكر الفرنسي الشهير كتب في صحة تلك المحرقة وشكك بحجمها في كتاب "الخرافات المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" ودفع ثمن تشكيكيه بأن تمت محاكمته وإدانته في فرنسا لأجل ذلك. أما كتاب "صناعة المحرقة" فهو من نوع آخر، لأنه أولًا لكاتب يهودي سعى فيه إلى تفسير كيف أن قضية المحرقة تم بناؤها لخدمة أهداف سياسية وليس لإحقاق الحق وعقاب المجرمين.

قد يكون أكثر الناس مصداقية وموضوعية في طرح واقع وحقيقة دولة الصهيوينة هم يهود أو من خلفيات يهودية، تفوقوا على بديهية تأييد دولة إسرائيل عن حق أو عن باطل. هؤلاء الناس، وأكثرهم من المثقفين المتنورين، تجاوزوا الموروث المتعصب وقاربوا وجدانهم الإنساني كبشر فقط. من بين هؤلاء كان نورمن فنكلشتاين اليهودي الأصل والأمريكي، عالم التاريخ الذي فصل من التدريس في جامعته في الولايات المتحدة الأمريكية لكون آرائه بخصوص فلسطين لا تتناسب مع سياسة داعمي الجامعة. وكان أيضًا قد دخل في اشتباك مع البروفسور درشوفيتس بهذا الخصوص، وهو اليهودي المتعب والمنحاز بشكل فاضح للصهيونية، وما زالا حتى اليوم في جدل مستمر على وسائل الإعلام. 

كان معظم أقربائه من الذي تمت تصفيتهم في معسرات النازية، لكنه أدرك في وقت مبكر من شبابه كأستاذ جامعي وباحث أن الصهيونية قامت باستثمار قضية المحرقة لتكديس أرباخها في السياسة وفي التهرب من المسؤولية عن جرائمها. كرس أربعين سنة من البحث في قضية فلسطين، ومن ثم عاش في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل وبعد أوسلو، كما بعد انفصال غزة تحت حكم حماس. 

يقول فنكلشتاين، بأنه بالرغم من فظاعة ما فعله النازيون في الحرب العالمية الثانية من أعمال تصفيات عنصرية، لم يكن هناك اهتمام غربي فعلي للتعاطف مع اليهود بالذات كضحايا قام بها غربيون أوروبيون بحقهم. يقول فنكلشتاين عن كتابه "صناعة المحرقة" الصادر سنة 2000: السبب العميق عندي لكتابة هذا الكتاب هو أن والدي اللذان نجيا من المحرقة النازية قد توفيا في عام 1995م، وتصورت أن الوقت مناسب لكي أتحدث بصراحة عن صناعة الهولوكوست، والتي شوهت وأساءت إلى ذكرى والدي. لم يدهشني أن يسبب الكتاب كل هذا الغضب ضمن المنظمات اليهودية، لأنهم كانوا الهدف الرئيسي لكتابي. رغم ذلك، فإنه يجب على المرء أن يميز بين غضب المنظمات اليهودية، من ناحية، ورد فعل الضحايا الفعليين ومن نجوا من الاضطهاد النازي، من ناحية أخرى. كنت دائما على اتصال مع العديد من الناجين من الاضطهاد النازي، وكلهم حتى رغم عدم اتفاقهم معي في العديد من القضايا، ومن ضمنها آرائي فيما يتعلق بالفلسطينيين، لكن، حتى في اختلافهم معي على هذه القضية، فإنهم يدعمونني بشكل كامل في أن المحرقة النازية قد استغلت لأسباب ومكاسب سياسية ومالية من قبل اليهود الأمريكيين. بعض هؤلاء الناجين من المحرقة قدم دعما قويا لكتابي، مؤكدين أنه بالغ الدقة ككتاب تحقيقي أكاديمي يبغي الوصول إلى الحقيقة، وليس بالضرورة إرضاء المجتمعات اليهودية. 

يبدو لي هنا أنه يجب أن يكون لدينا منظور تاريخي حول هذا السؤال، لأنه ما لم نضع هذا السؤال في منظوره التاريخي فلن يكون مفهوما ما حدث بالضبط. فالنقطة الأولى التي يجب أن نثيرها هنا هو أنه فيما بعد المحرقة النازية مباشرة، وحتى سنة 1967، لم يكن هناك أي ذكر للمحرقة النازية في الأوساط الأمريكية. قد يكون ذلك مبعثا للدهشة العديد من الناس الذين كانوا قد يفترضوا أن اليهود كانوا يتحدثون عن المحرقة منذ نهاية العهد النازي. لكن هذا ليس صحيحا، فالنقطة الهامة التي يجب أن نفهمها هو أنه، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في تحالف مع ألمانيا الغربية في تحالف ضد الاتحاد السوفيتي. ولدعم هذا التحالف وتقويته بمن كان عدوا لنا قبل عامين فقط، فإن المحرقة النازية كان يجب أن تنسى لأنه إذا ظللنا نذكر بالمحرقة النازية، ومن ثم الدخول في تحالف مع ألمانيا التي بالكاد تخلصت من آثار النازية، فستتقول أن الشعب الأمريكي يتحالف مع الشعب ذاته الذي قام بالقضاء على ستة ملايين يهودي في غرف الغاز. لذلك، كان يجب أن تختفي المحرقة النازية من الذاكرة لمجرد تسويغ هذا التحالف. لذلك فإن المحرقة النازية أصبحت من الموضوعات المحرمة حتى في الحياة اليهودية الأمريكية، وأيضا في الحياة الأمريكية بشكل عام. وفي عام 1967، تغيرت الأمور بشكل جذري، فبعد حرب الأيام الستة، دخلت الولايات المتحدة في تحالف إستراتيجي جديد مع إسرائيل، وبالتالي كان من الواجب وضع أدبيات لتسويغ هذا الحلف. النخبة من اليهود الأمريكيين حتى يونيو 1967 لم تكن فقط تلتزم الصمت فيما يتعلق بالمحرقة النازية، بل كانت أيضا صامتة فيما يتعلق بإسرائيل، لأنه منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948 وحتى عام 1967 كان اليهود الأمريكيون كان يخشون من أنهم إذا أيدوا إسرائيل، فإنهم سوف يتهمون بازدواجية الولاء. فقبل يونيو 1967 لم تكن إسرائيل حليفا هاما للولايات المتحدة، وبعد يونيو 1967، بعد تغير الأحلاف، فإن نخبة اليهود الأمريكيين احتضنوا إسرائيل، وأصبحوا مناصرين لها. عندها، اكتشفوا فجأة ضرورة تظهير قصة المحرقة النازية، لأنها أصبحت أكثر الأسلحة الأيديولوجية المفيدة التي يمكن أن تضع كل من ينتقد إسرائيل في صف صانعي المحرقة. وعندما أقول اكتشاف المحرقة أعني أنه اكتشاف انتهازي. 

هنا، فإن الوسيلة الواضحة التي استغلوا فيها المحرقة هو أنهم استخدموها ضد الأنظمة العربية. من أجل هذا الهدف تم تحويل العرب إلى بدائل عن النازيين، وفي الوقت ذاته، تم نسيان مرتكبي المحرقة الألمان، وأصبح العرب هم تمثيل للنظام النازي. وبهذا المعنى. هكذا في رأيي بأن العرب والفلسطينيين أصبحوا الضحية الثانية للمحرقة النازية، لأن المحرقة الآن أصبحت تستخدم ضد العرب والفلسطينيين الذين لا علاقة لهم بالتأكيد بالمحرقة النازية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الإسرائيليين واليهود الأمريكيين يستخدمون المزاعم بأن معاناة اليهود كانت فريدة من نوعها، لكي يبرروا عدم التزام إسرائيل بالمقاييس والمعايير الأخلاقية والقانونية الطبيعية، لأن اليهود عانوا بشكل فريد، لذلك فإنهم يجادلون بأنهم ليسوا ملزمين بتنفيذ الالتزامات الطبيعية القانونية بموجب القانون الدولي. ومن ضمن كل ذلك كان مسامحتهم على تجاوز كل القرارات الدولية.

الهدف الأساسي من صناعة الهولوكوست هو تحييد أو إعطاء مناعة لإسرائيل من كل نقد، وذلك من خلال إثارة وإبراز مسألة اضطهاد النازي لهم. في أثناء الثمانينات، استخدمت قضية المحرقة في سبيل إعطاء مناعة لليهود الأمريكيين ضد النقد، بعد أن تحركوا من اليسار إلى أقصي اليمين الليبرالي. وبدءًا من التسعينيات، فإن المحرقة تحولت إلى أسلوب للابتزاز من خلال إثارة ذكرى ضحايا الاضطهاد النازي واستغلالها لسحب مبالغ طائلة من أوروبا. وفي الوقت الحاضر تستخدم لمحرقة النازية للمزيد من الابتزاز المالي.