الإغريقيّان!
بقلم مراسل نيوز
بين "سيرة حياة" الصحافي اللبناني الكبير الراحل غسّان تويني والإعلامي الفلسطيني الكبير وائل دحدوح شبَه كأنّه خارج من التراجيديا الإغريقة القديمة:الموت المتلاحق الذي يلفّ حول العنق، الحزن العميق الذي يشدّ الخناق..والعيون التي يتحجّر فيها الدمع.
ما جرى ويجري مع مراسل "الجزيرة" في غزّة يفوق الواقع كما يكاد يفوق الخيال.وما تقوم به إسرائيل بات يتجاوز لوثة الحرب، على مشهديّة الحروب القاسية والمؤلمة والغاصبة، إلى نوع من القتل المتسلسل الذي لا يتعافى من الدم المراق إلّا بدم أكثر فأكثر.فالجيش الصهيوني لم يكتفِ بالجراح التي تسبّبها عمداً ل "وائل" بمقتل زوجته وإبنته وحفيده في عقر دارهم، بل استتبعها بجرح أشدّ إيلاماً باغتيال نجله "حمزة" في غارة طاولت سيارة قناة "الجزيرة" في خان يونس، شرق قطاع غزّة.وقد استشهد في الغارة الصحافي مصطفى ثريّا ما يرفع عدد الشهداء في الجسم الإعلامي الى حوالي 109 منذ بدء الحرب ما بعد عملية "طوفان الأقصى" في 7 أوكتوبر 2023..ومع جرح الدحدوح النازف بلا توقّف، يبرز السؤال السوريالي:كيف يتحمّل هذا الرجل كلّ هذا الوجع..وماذا تريد إسرائيل من هذا الرجل المنتصب الذي كلّ جريمته أنّه يؤدّي مهنته باحتراف عالٍ ويتعاطف مع وطنه بفيض من الحبّ، ولا يمتلك من السلاح سوى كاميرا تنقل الصورة وصوت ينقل الخبر، وخوذة بالكاد تقي الرأس والعيون من شظايا الموت المنتشر فوق مساحة غزّة الضيّقة؟
كلّنا يتذكّر ملامح صاحب جريدة "النهار" غسّان تويني عندما بلغه نبأ اغتيال نجله الوحيد المتبقّي له من عائلته الصغيرة جبران تويني بسيارة مفخّخة وُضعت في طريق انتقاله من منزله الى مبنى جريدة "النهار".وقع الإنفجار وتطايرت أشلاء صاحب قَسَم 14 آذار، تاركاً وراءه صبيتين صغيرتين وزوجة ووالداً مفجوعاً.وعندما شاهدنا غسان تويني العظيم منتصباً كأحد آلهة الإغريق في جنازة إبنه المهيبة، تساءلنا كالأطفال:كيف يمكن لهذا الرجل أن يتحمّل كلّ هذا الوجع؟لقد خسر إبنه الأوّل بحادث سير، وخسر زوجته وإبنته بداعي المرض، وها هو يودّع ولده الأخير شهيداً على أيدي من يدّعون اليوم رفع المظلوميّة عن الشعب الفلسطيني، فيما هم فرضوا مظلوميتهم على الشعب اللبناني بسلسلة من الإغتيالات بدأت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولما تنتهِ بعد باغتيال كلّ من لقمان سليم والياس الحصروني وغيرهما..
بين التويني والدحدوح شبه عظيم، ولو اختلف القاتل.فالظلم واحد والجرح واحد..والجامع بينهما هو "الكلمة".كأنّه كُتب على هذا الشرق أن يختار بين الصمت والموت.بين القلم والسيف.بين الصورة والقذيفة.بين أن تكتب الخبر أو تكون أنت الخبر.غسّان تويني كتب بيده مانشيت عدد "النهار" الذي تلا يوم استشهاد النائب جبران التويني، وكذلك نعى "وائل" بصوته الجهوري الدافئ موت عائلته دفعة واحدة، ومن ثمّ موت "حمزة" فيما بعد:فهل يوجد فوق هذه الأرض ما هو أقسى من هذه الدرامية التي أحاطت من قبل بديك "النهار"، وتحيط اليوم بفارس "الجزيرة"؟
ما يجمع بينهما أنّ "القاتل" الممتدّ من تل أبيب إلى طهران يخاف "الكلمة" إلى حدّ قطع الرؤوس تحت عنوان "أنا ضرّاب السيوف..أنا أعمى ما بشوف..".ما يجمع بين الرجلين أنّهما "إغريقيّان" قد خرجا من التاريخ القديم ليكتبا التاريخ الجديد بدماء أعزّ ما يملكون!