الحياد المقيت بين عدوّين

بقلم الدكتور مصطفى علوش

الحياد المقيت بين عدوّين

"ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة نحن أحياء و باقون ، و للحلم بقية "

محمود درويش 

كنت أتابع مباريات بطولة العالم في الجودو، التي جرت على مدى الأسبوع في مدينة طوكيو، تلك العاصمة التي أحرقها جنون العظمة في نهايات الحرب العالمية الثانية وسقط فيها في ليلة واحدة مئتا ألف قتيل، وقعوا تحت مطحنة الطائرات الأميركية، أي أكثر مما قتلته قنبلتي هيروشيما ونكازاكي الذريتين. كل الدراسات التي حصلت بعد ذلك حول مسوغات رمي القنابل الذرية أكدت أن اليابان كانت قد سقطت ولم يكن هناك داع لتجربة القنبلتين. لكن أمريكا يومها كانت تريد أن تعلن سيادتها المطلقة على العالم من خلال تلك الجريمة الموصوفة، قبل أن يتبعها الآخرون بتكديس الوحش النووي في مخازنهم. تلك اليابان، اعتقد قادتها أن جنسهم أنقى من باقي أصناف العرق الأصفر، فانطلق العسكر الإمبراطوري في حملة تطهير عرقي ضد كل ما كان حول الأرخبيل الذي حمى أمبراطورية الشمس المشرقة على مدى قرون عدة.

 

كل ذلك أصبح من الماضي الآن، ولم يعد أحد يذكر الأمبراطور هيروهيتو ولا الماريشالات يماموتو و توجو وياماشيتا، الذين قادوا المذابح والجنون العنصري النابع من عمق الأساطير القومية والوطنية. يذكر الناس اليوم فقط سيارات الهوندا والتويوتا، والصناعة المتقنة والإخلاص في العمل الذي انتشل ذاك البلد من تحت رماد البيوت الخشبية والغبار النووي، ليصبح إحد أهم الدول الصناعية. إرث اليابان الثقافي والرياضي كان أيضًا في لعبة الجودو، فن من فنون القتل الذي تحول إلى مجرد لعبة أولمبية يتنافس فيها كل البشر.

لكنني لم أتمالك نفسي أثناء مشاهدة المباريات، رغم ادعائي الموضوعية، كخبير في اللعبة في تقييم اللاعبين، إلا أن أشعر بالأسى وأنا أشاهد نتائج الفريق الإسرائيلي من شبان وفتيات، إلى حد أصبح فيه من الفرق الأقوى في العالم. كنت في كل المباريات أتمنى أن أرى اللاعبين الأعداء مهزومين، على الأقل كتعويض على فشلنا في هزيمة دولتهم! لكنني، وبكل أسف على حالي، كنت أشعر بالشيء ذاته تجاه أفراد الفريق الإيراني، وبغض النظر عن اللاعب المقابل. لحسن الحظ أن اللاعبين الإسرائيليين لم يلتقوا على حد علمي في أي من المباريات، وذلك لقرار إيراني بمقاطعة إسرائيل، وقد اضطر أحد لاعبي إيران المتفوقين أن يهرب إلى بلد آخر ليستمر بالمنافسة أمام إسرائيليين. أقول لحسن الحظ لأنني في تلك الحالة علي أن أختار إلى من أنحاز، وأنا وإن كنت واثقاً من موقفي منذ عقد من الزمن بأنه سيكون حتمًا مع أي لاعب يتبارى ضد إسرائيلي، لكنني اليوم غير واثق إلى أي من العدوين أنحاز، أم أعلن الحياد، أم أتجاهل الإثنين؟

 

في الجزء الثاني من الحرب العالمية الثانية، انقلب هتلر على ستالين، بعد أن تشاركا في احتلال بولندا سنة 1939 ونكلا وذبحا البولنديين، كل منهما على طريقته. لو كنت بولنديًا وكان علي أن أختار بين الروس والألمان في حصار ستالينغراد أو بعدها في اقتحام برلين، لقلت على الأقل: "فخار يكسر بعضه"!

 

لو كنت عربيًا عالقًا ما بين سندان الروم ومطرقة الساسانيين سنة 627 في حربيهما على أرضي وبشعبي (المناذرة والغساسنة)، فهل كان علي أن أختار طرفًا أدعمه دون الآخر، أم أدعي الحياد بينهما وأنا أتمنى الدمار لهما حتى أرتاح، أم أثور على الإثنين؟

 

بكل موضوعية، وأنا أتابع سقوط عشرات الشبان منا تحت وابل القصف المعادي، مقاتلين أم متطوعي إغاثة أو تاعسي الحظ، أتأكد أننا عالقون بين مطرقة الأميركي وحلفائه وأتباعه وسندان الإيراني وحلفائه وأتباعه، والحرب تدور على أرضنا والبيوت المدمرة بيوتنا والإقتصاد السقيم هو رزقنا، والشهداء الذين يسقطون بإرادتهم، أم بعامل الصدفة هم أبناؤنا. لكل ذلك لن يدخلني في حفلة النفاق وجنون العشق الموسمي للمقاومة! فبالنسبة لي، كل مواقع "حزب الله" في لبنان وسوريا والعراق واليمن هي أراض يحتلها أبناء جلدتي لحساب بلد آخر يعتدي على أمني واقتصادي وبيتي، في حين أن طهران لم تسقط عليها مفرقعة واحدة، ولا حتى انطلقت منها مفرقعة باتجاه إسرائيل. وهنا ليس من الجائز التحجج لا بأحبولة مشاغلة العدو ولا بمسخرة الصبر الاستراتيجي الذي ورثوه عن الساسة العرب الفاشلين. لكن الفضيحة المحزنة هي كون ما تبقى من دولة في لبنان مجبرة على اتباع سياسة النعامة في كل ما يحدث، فمن ناحية تدين العدو، وهو أقل الإيمان، ومن ناحية تتنصل مما يحصل انطلاقًا من لبنان، وهس كشاهد "ما شفش حاجة"! المحزن حقًا هو قرار البعض في الاستمرار في الرهان على حياة شبابنا للصمود والموت دفاعًا عن أسطورة نابعة من عمق التاريخ، لقتال أسطورة تشبهها شكلًا ومضمونًا أسست لاحتلال فلسطين، في حين أن أسطورة إيران تحتل اليوم دولًا عربية تعادل خمسين مرة مساحة فلسطين. وهذا ما استدرج قوى أخرى، لا تؤمن بأسطورة الولي الفقيه، إلى الاقتداء بها لتجد لها مكانًا في الإعراب، وتسوغ لنفسها حمل السلاح في الشوارع وإقامة العراضات، إضافة إلى تقديم شبان جدد للموت.

 

حسب وثائق بيزنطية قديمة، وبعد حرب طاحنة أنهكت الفرس والروم، كانت هناك مملكتان على أطراف شبه الجزيرة العربية، المناذرة (اللخميون) والغساسنة. بعد أن قررت المملكتان العربيتان وقف مفاعيل خدمتهما الطويلة لحساب الأمبراطوريتين المتنازعتين، فاتحدت المملكتان ومن ثم بدأ العصر العربي.

منذ أيام دمرت القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل عدد من قادة الحرس الثوري فيها، رغم أن المتهم في العملية هي إسرائيل، فما هو موقف نصف مليون ضحية وملايين المهجرين السوريين بالموضوع؟