عودة: إن كنا سنصوم ونصلي فليكن انقطاعنا عن الأكل فرصة لنتقاسم الطعام الذي انقطعنا عنه مع المحتاج

عودة: إن كنا سنصوم ونصلي فليكن انقطاعنا عن الأكل فرصة لنتقاسم الطعام الذي انقطعنا عنه مع المحتاج

 ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "غالبا ما يضيع الإنسان هدف حياته ويستعيض عنه بالوسائل اللازمة للوصول إليه، فتصبح الوسائل هي الهدف. كالطعام الذي هو وسيلة الإنسان للبقاء حيا، فيحوله الإنسان إلى هدف ويسعى جاهدا للحصول عليه وتخزينه كي لا يفقده، ناسيا أن الله الذي يهتم بزهور الحقل وطيور السماء لا يتخلى عن أبنائه. كذلك المال الذي هو وسيلة أساسية لتأمين الحاجيات، أصبح هدف الإنسان، لا بل إلهه، بدل الله، ومصدر قوته وسلطته، به يشتري كل شيء حتى المراكز والضمائر. هذا الأمر ينطبق على حياتنا المسيحية حين نحول الصوم والصلاة ومعرفتنا اللاهوتية هدفا لحياتنا، وهي وسائل ليبقى ذهن الإنسان وجسده في حضرة الله الذي يدعونا إلى التوجه نحو القريب المحتاج، فنركز نظرنا إلى أنفسنا، مهملين الآخر، وقد نسيء إليه أو ندينه".

أضاف: "تعي كنيستنا حالة الإنسان فتذكره سنويا، قبل الصوم، بأن الهدف هو تطبيق وصايا الله التي تختصر بمحبة الله ومحبة القريب. لذا نقرأ اليوم إنجيل الدينونة لنتذكر أن الرب موجود في الآخر، وأننا لن نصل إلى الملكوت إلا مرورا بإخوتنا المحتاجين. كان الرب واضحا في كلامه على الأعمال التي يتوجب على الإنسان القيام بها لينال الملكوت، وقاسيا في حكمه على من يخلف، لأن مصير من لا يعمل وصايا الله هو العذاب الأبدي. كذلك نقرأ اليوم فصلا من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس يتكلم فيه على استعمال الإنسان لحريته في المسيح، وتصرفه في ما يخص الطعام. يتحدث الرسول عن تصرف بعض مؤمني كنيسة كورنثوس في ما يتعلق بالأوثان. بالنسبة للمؤمن، ليس إله إلا الله وحده، والأوثان ليست آلهة بل هي من صنع البشر. كان يقام ما يشبه المطاعم إلى جانب هياكل الأوثان، فتباع فيها لحوم الذبائح. لم يكن المؤمن يتردد في الذهاب إلى تلك الأماكن ليأكل أو يشتري اللحم، لأنه يعرف أن لا وجود للأوثان. غير أن هذا الأمر كان يشكك ضعاف النفوس الذين قد يظنون أن أكل الذبائح مسموح، وبالتالي لا مانع من تقديم الذبائح للأوثان. يقول لنا الرسول: «وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضمائرهم، إنما تخطئون إلى المسيح». فالمسيحي لا يسيء التصرف تجاه الآخرين كي لا يسيء إلى المسيح نفسه، وهذا ما نفهمه من مثل الدينونة أيضا".

وتابع: "يعلمنا الرسول بولس في عدة مواضع أن منطلق تصرفنا هو بنيان الآخر والكنيسة، أي العمل والتكلم بما يفيد الآخر والجماعة، كما يعلمنا أن كل شيء يحل لنا، لكن ليس كل شيء موافقا لخلاصنا أو لبنيان الكنيسة-جسد المسيح. المهم أن نحب الآخر. لذلك يحضنا في رسالته إلى أهل أفسس أن نتكلم بصدق لأننا جسد المسيح الواحد، وألا نغضب أو ندع مجالا للشيطان لأن يدخل بيننا فيقول: «لا تخرج كلمة رديئة من أفواهكم، بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين... ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضا في المسيح» (أف 4: 25-32). لذا، لا يمكن أن يصبح ما نحن مقدمون عليه من صوم وتكثيف للصلوات هدفا في مسيرتنا الروحية، لإن الهدف الوحيد هو وجه المسيح الذي سنلتقيه يوم الفصح المبارك، وهذا الوجه موجود في الآخر. فإن كنا سنصوم ونصلي، فليكن انقطاعنا عن الأكل فرصة لنتقاسم الطعام الذي انقطعنا عنه مع المحتاج، ولتكن صلاتنا من أجل الآخر أيضا. هذا ما تعلمنا إياه الكنيسة في صلوات هذا الموسم المبارك. اللافت أن الكنيسة، قبيل انتهاء الصوم الكبير، في الأحد الخامس من الصوم، تذكرنا مجددا بأن ملكوت الله ليس طعاما وشرابا بل عمل رحمة".

وقال: "المحبة هي القاضي في اليوم الأخير. الرحمة التي أظهرها الإنسان نحو كل محتاج إلى الطعام والدفء والطمأنينة، ونحو كل منبوذ ومرذول ومسجون، هي جواز عبوره إلى الملكوت. يقول الرسول يعقوب: «كما أن الجسد بدون روح ميت، هكذا الإيمان بدون أعمال ميت» (2: 26). فإن لم يقترن الإيمان والصوم والصلاة بالمحبة والرحمة تصبح هذه كلها فارغة وسطحية. لكن المحبة شوهت في أيامنا وصارت ترتكب باسمها أفعال سيئة، وتضطهد شعوب أو تقتل تحت شعار خير البشرية المزيف، أو تشن حروب ويصنف البشر وفق اللون والعرق والطبقة والهوية. هذا بعيد كل البعد عن المسيحية التي ترى وجه المسيح في كل إنسان هو مرسل إليك لكي يكون وسيلة لخلاصك، ونعمة من الله لكي تحبه فينفتح لك باب الملكوت".

أضاف: "عندما تقف أمام ربك واضعا قلبك أمامه سوف يسألك ماذا فعلت في حياتك؟ لن يسألك عن لونك وعلمك ومركزك ومالك بل عن أعمالك. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «المسيحي يفكر دائما بموته ودينونته الآتية، وبالجواب الذي سيعطيه عن أعماله، ويفكر أيضا بخطاياه طالبا إلى الله مسامحته عليها». فلننظر إلى أنفسنا، ولنتوقف عن الثرثرة والحقد والنميمة والقتل ودينونة الآخرين، ولننصرف إلى العمل المجدي والفضائل البناءة للنفس لكي نسمع الصوت الحسن قائلا: «تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم منذ إنشاء العالم لأني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني وكنت غريبا فآويتموني وعريانا فكسوتموني ومريضا فعدتموني ومحبوسا فأتيتم إلي». هذه الكلمات ليست مقياس الدينونة في اليوم الأخير فحسب بل تتضمن دينونة لكل الحكام الذين لا يقيمون وزنا إلا لمصالحهم، متلهين عن الضعفاء والمظلومين، ولكل الأنظمة التي تتغاضى عن قضايا شعبها، ولكل الأغنياء العميان عن آلام الفقراء، ولكل من ينصب نفسه وصيا على إخوته أو ديانا لهم، مشيحا نظره عن سقطاته وعيوبه".

وختم: "لذا دعوتنا اليوم أن نرى الله في كل إنسان، كائنا من كان، حتى نكون أمناء لخليقة الرب التي نتدرب على المصالحة معها خلال الصوم، ومحبتها بلا مقابل، فنرث الملك المعد منذ إنشاء العالم".