وليد جنبلاط يُكسر السرديات: لا حماية إسرائيلية للدروز... ولا وطن خارج المصالحة
بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

في منطقة اعتادت الصمت المُوارب، جاء صوت وليد جنبلاط واضحًا، قاطعًا، ليعيد ترتيب المعادلات المقلوبة. خلال مقابلة بثها "التلفزيون السوري"، قال الزعيم اللبناني ما لم يجرؤ كثيرون على قوله صراحة:
إسرائيل لا تحمي الدروز في السويداء، بل تستخدم بعضاً من ضعفاء العقول لترويج هذه الأكذوبة.
بهذا التصريح، خرج جنبلاط من عباءة الحسابات السياسية الضيقة، ليتحدث بلغة التجربة، والذاكرة، والإنذار المبكر. لم يكن تصريحه موقفًا ظرفيًا، بل أشبه بـ"وثيقة سياسية" تحذّر من لحظة خطيرة، حيث يُعاد إنتاج فكرة "الحماية الخارجية"، ولكن هذه المرة بأدوات طائفية أكثر نعومة، وأكثر خطورة.
جنبلاط، الذي طالما وُصف بأنه رجل التوازنات، تخلى في هذه اللحظة عن الدبلوماسية اللغوية. لكنه لم يسقط في فخ التخوين. حديثه كان موجّهًا، لا عدائيًا. حذّر من تورط بعض الأصوات في الجبل بمراهنات قصيرة النظر، لكنه في الوقت نفسه أقرّ بوجود حالة احتقان حقيقية يجب معالجتها:
"وقعت انتهاكات في اليومين السابقين، خلّفت آثارًا سلبية على المجتمع العربي في جبل العرب. يجب ترميم الوضع، وأن يكون هناك وفاق ومصالحة وطنية كبرى."
بعبارة أخرى، هو لا يبرّئ السلطة، لكنه لا يبرّر أيضًا السقوط في حضن الاحتلال. يُدين الخلل من الداخل، لكنه يرفض استيراد الوهم من الخارج.
ما يجعل تصريح جنبلاط ذا قيمة سياسية استثنائية، ليس فقط محتواه، بل السياق الذي أتى فيه. فحين يستعيد زعيم لبناني الحرب الأهلية كمرآة لما قد يحصل في سوريا، فإن الرسالة تتجاوز اللحظة المحلية:
إحدى أسباب الحرب الأهلية في لبنان كانت زعم إسرائيل أنها تحمي البعض، وانتهى الأمر بكوارث. ها هي تعيد الظهور اليوم من خلال الدروز، وقد تطلّ عبر غيرهم.
هنا، يقدّم جنبلاط مقاربة واضحة: إسرائيل لا تدخل إلى المجتمعات كعدو معلن، بل كـ"حامٍ مشبوه"، فتزرع الانقسام، وتُشعل الفتنة، وتنسحب عندما يعمّ الخراب. ومن يراهن على حماية إسرائيل، يدفع الثمن وحده أولًا، ويدفع معه الوطن كلّه لاحقًا.
للحديث عن علاقة إسرائيل بالدروز في أي مكان في المنطقة حساسية خاصة. ولكن جنبلاط، المنتمي إلى هذا المكون، والمتحدّر من بيت سياسي يمتلك معرفة دقيقة بديناميات هذه العلاقة، اختار أن يُعلن موقفًا صريحًا:
لا حماية من إسرائيل، لا في الجولان، ولا في فلسطين، ولا في السويداء.
لقد قلب الطاولة على كل من يحاول اختصار خيارات الدروز بين القمع الداخلي أو التحالف الخارجي، وقال: الخيار الحقيقي هو المصالحة الوطنية، لا الهروب من الواقع.
في زمن تتكاثر فيه الأصوات الرمادية، وتُغلف المشاريع الإقليمية نفسها بشعارات براقة عن "حقوق الأقليات"، جاء تصريح جنبلاط ليعيد وضع الإصبع على المعادلة الأصلية:
الحماية الحقيقية تأتي من الدولة، لا من الكيان المحتل.
الكرامة تُستعاد عبر وحدة وطنية لا عبر تحالفات مفروضة.
الأقليات ليست جسرًا للنفوذ، بل جزء أصيل من النسيج الوطني.
من السويداء إلى بيروت... رسالة إلى كل العواصم
تصريح جنبلاط ليس عن السويداء فقط. إنه تحذير استراتيجي من استخدام الأقليات كورقة في لعبة الأمم. وهو تذكير بأن "المراهنات الصغيرة" على الخارج قد تنسف كل ما تبقّى من الداخل.
قد يختلف كثيرون مع وليد جنبلاط في مواقفه المتقلبة أو خياراته السابقة، لكن في هذه اللحظة، كان صوته واحدًا من الأصوات القليلة التي ترفض المزايدات، وترى المشهد كما هو: هش، وخطير، ومفتوح على احتمالات لا يمكن التنبؤ بها.
ولذلك، يستحق أن يُسمَع.