الفراغ القاتل: الشرق الأوسط يغرق في الجفاف السياسي... وإسرائيل تعزف منفردة بالنار

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

الفراغ القاتل: الشرق الأوسط يغرق في الجفاف السياسي... وإسرائيل تعزف منفردة بالنار

في زمنٍ يتناقص فيه منسوب الحكمة، وتتبخر فيه بقايا الرؤية، تعيش منطقتنا ما يمكن تسميته بـ"النكبة السياسية الكبرى"—نكبة بلا طائرات ولا دبابات، لكن بأسلحة أشد فتكاً: الفراغ، الإنكار، والعجز التام عن إنتاج فكرة قابلة للحياة.

في لبنان، كما في غزة، كما في دمشق، كما في صنعاء، لا شيء يتحرك إلا على إيقاع الخراب. أما السياسة؟ فقد جفّت ينابيعها. أُعلنت وفاتها بصمت، ودفنت دون حداد.

لكن المفارقة أن هذا الفراغ القاتل، لم يخلّف فقط شوارع بلا كهرباء وحكومات بلا خطط، بل خلّف ما هو أخطر: إسرائيل وحدها تتحرك داخل هذا السكون المريب، تعيد رسم المشهد الإقليمي بطائرات إف-35 وصواريخ دقيقة، بينما الجغرافيا العربية تكتفي بالتفرج، والتأرجح بين الإنكار والتبرير.


الجفاف السياسي: حين تصبح القوة بديلاً عن المشروع

في زمن مضى، كانت إسرائيل تعاني لتبرير وجودها. اليوم، تحوّلت إلى كيان هجومي دائم، لا يعترف بأحد ولا يفاوض أحداً، بل يفرض معادلاته من الجو، ويعيد تعريف الإقليم بلا مشاورات، بلا تسويات، بلا حتى قناع سياسي.

ضربة دمشق الأخيرة لم تكن عملية عسكرية فقط، بل إعلان مرحلة: زمن القوة بدون شريك، بدون وسيط، وبدون غطاء شرعي. في المقابل، العالم العربي يبدو كمن اختار الاستقالة، وكأن الجغرافيا وحدها كافية لمنحه الحق في البقاء.

لكن الجغرافيا وحدها لا تحمي، ولا الطائرات وحدها تصنع السلام. كلا الطرفين، العرب وإسرائيل، يعيشان وهم الاستثناء. أحدهما يظن أن شرعيته أبدية لمجرد أنه ولد هنا، والآخر يعتقد أن امتلاك السماء يعفيه من تقديم أي أفق لمستقبله ومستقبل المنطقة.

"مؤامرة" بلا مؤامرين: الخطر الحقيقي في الداخل

في بيروت، الجفاف السياسي لم يبدأ بانهيار الليرة أو تفجير المرفأ. بدأ يوم صار كل زعيم طائفة مشروعاً منفصلاً، وكل حزب دولة داخل الدولة، وكل أزمة تُدار بردّ فعل لا بخطة.
وفي دمشق، صنعاء، غزة، والخرطوم، المشهد نفسه يتكرر: أنظمة مأزومة، ومجتمعات منهكة، ومعارضة محنطة، والجميع ينتظر معجزة لن تأتي.

من هنا، المؤامرة الحقيقية ليست خارجية. ليست مؤتمرات تطبيع في الغرف المغلقة، ولا خرائط تُرسم في تل أبيب أو واشنطن أو موسكو. المؤامرة اليوم داخلية، علنية، ومستمرة بصمت. إنها في كل زعيم يرفض الاعتراف بفشل مشروعه. في كل نظام يفضل الانفجار على التغيير. في كل مثقف يعيد تدوير نفس الخطاب منذ ثلاثين عاماً.

الفراغ لا يبقى فارغاً طويلاً

في الشرق الأوسط، الفراغ السياسي لا يدوم طويلاً. فهو إما يُملأ بانفجارات، أو بانقلابات، أو بنماذج متطرفة تعيد إنتاج الخراب تحت رايات جديدة.
وإسرائيل، اليوم، تلعب على هذا الفراغ: تهاجم حين تشاء، وتنسحب حين تشاء، لأنها تدرك تماماً أنها اللاعب الوحيد الذي يملك "خطة"، حتى لو كانت خطة قائمة على النار فقط.

في المقابل، من يملك خطة عربية؟ من يتجرأ على طرح مشروع إقليمي قابل للبقاء؟ من يصوغ سردية تقنع العالم أن هذه المنطقة تستحق مستقبلاً مختلفاً؟ لا أحد تقريباً.

دعوة للصدام مع الذات... لا مع الآخر فقط

ما لم نتصالح مع فكرة أن هذه المنطقة تحتاج إلى مشروع، لا إلى ردات فعل، فإننا سنبقى رهائن لجغرافيا بلا معنى، ولسرديات مأزومة، تتكرر منذ نصف قرن.

نحن لا نعيش سباق تسلّح، بل سباق سرديات. ومن يخسر السردية، يخسر كل شيء، حتى لو بقيت له الأرض والسلاح.

الفراغ السياسي أخطر من أي مؤامرة. لأنه يمنح العدو حرية الحركة، ويمنح الداخل مبرر الانهيار.

نقطة النهاية؟ لا، بل بداية الأسئلة:

من يجرؤ على بناء مشروع سياسي جديد لا يقوم على الطائفية أو الوصاية؟

من يملك شجاعة تحويل الانفجار إلى لحظة تأسيس لا لحظة ندم؟

ومن يخرج من وهم القوة، ووهم الهشاشة، ليفهم أن القوة بلا معنى = دمار، والهشاشة بلا مشروع = انقراض؟


في الجفاف السياسي، لا تنتظروا السلام، ولا النصر، ولا حتى الاستقرار.

انتظروا فقط من يملأ هذا الفراغ... ولا أحد يملأه مجاناً.