شخصية معرض أبوظبي للكتاب... نجيب محفوظ العابر للمكان
يأتي الحضور المصري خاصّاً جداً، بل استثنائيّاً، في الدورة الثالثة والثلاثين لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب (29 أبريل/نيسان-5 مايو/أيار 2024)، الذي يشهد مشاركة مصرية واسعة النطاق، على مستوى المبدعين وحَمَلة الأقلام والناشرين على السواء.
وتحلّ مصر ضيف شرف المعرض هذا العام، ببرنامج ثقافي حافل، كما أنّ الأديب المرموق نجيب محفوظ هو الشخصية المحورية للمعرض في برنامج متنوع زاخم أيضاً. وتحضّر كبرى دور النشر المصرية، وعلى رأسها الهيئة المصرية العامة للكتاب، ودار الكتب والوثائق القومية، ومكتبة الإسكندرية، بقائمة عريضة من عناوين الكتب والإصدارات، إلى جانب تنظيمها نشاطات وندوات ومعارض تشكيلية وأنشطة متنوعة.بطولة الأمكنة
ولعلّ أبرز ما تثيره مناقشات "أبوظبي الدولي للكتاب"، في سياق شخصية المعرض، ذلك المحور الذي يتطرّق إلى "بطولة المكان عند نجيب محفوظ"، إذ يضع يده على كلمة السرّ ومفتاح الولوج إلى عوالم محفوظ الروائية، وهو المكان.
فمن الممكن اعتبار أنّ مجموعة كبيرة من إبداعات محفوظ هي أعمال مكانية بامتياز، لأنّ بطلها الأول هو المكان، على أكثر من مستوى.
ويقود هذا المكانُ/البطلُ أدب نجيب محفوظ برمّته ليكون أدباً عابراً للمكان. وبمعنى آخر، فإنّ إسناد البطولة الروائية إلى مكان محلي شعبي هو أحد أهمّ أسباب تجاوز العمل الأدبي نسبية الخرائط ومحدودية الأمكنة والأزمنة، ليصير أدباً إنسانيّاً عالميّاً خالداً.
الأمكنة في روايات محفوظ هي ذات حضور جغرافي وإنساني وفني في الوقت ذاته، ويكاد يلتقي المكان الحقيقي، والمكان المتخيل، التقاءً كاملاً في بعض أعماله الواقعية مثل "زقاق المدق" و"خان الخليلي" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية"، وغيرها.
ومن ثم، تكاد تستوعب هذه الروايات خرائط دقيقة لشوارع القاهرة وميادينها وأزقتها وحاراتها، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين، الأمر الذي يؤهّلها لأن تكون مراجع طوبوغرافية أمينة للباحثين.
وهذه الأمكنة، في الروايات نفسها، تلعب بطبيعة الحال أدواراً موسّعة في الفضاء الروائي، بنائيّاً ودراميّاً وفلسفيّاً وجماليّاً وتصويريّاً، بوصفها بطلة النص، وذلك على اعتبار أنّ الأمكنة كائنات حية، تتنامى وتتحرك، وتتفاعل مع الشخوص، وتؤثر في الأحداث، وتعكس التحوّلات المجتمعية المتلاحقة.المكان الواقعي
وفي روايات نجيب محفوظ الواقعية، هناك مستويان من الترصّد، لإحداثيات الأمكنة القاهرية على الصعيد الجغرافي فوق الأرض من جهة، وإحداثياتها على الصعيد الدلالي في مسطح العمل الأدبي، من جهة أخرى.
كما يجوز أيضاً، وبشكل عملي، عقد مقارنة أخرى، بين وضعيات هذه الأمكنة وتفاصيلها في زمن كتابة الروايات، ووضعياتها في العصر الحالي الذي نعيشه، حيث بقي منها ما بقي، وغاب ما غاب، وتطور ما تطور. وفي هذه المتغيّرات الجغرافية الطارئة، متغيّرات ومستجدات حياتية ومجتمعية بالضرورة.
وفي رواية "قصر الشوق" مثلاً، يصف نجيب محفوظ شارع قصر الشوق في حي الجمالية التاريخي بأنّه مزدحم، يضمّ البيوت ذات المشربيات، والدكاكين الصغيرة المتلاصقة، ويشتهر بعربات بيع الفاكهة.
وفي هذا الشارع، في عصرنا الحالي، لا تزال الآثار الإسلامية، وبقايا البيوت القديمة، وعربات الفاكهة الخشبية، والملايات اللف التي ترتديها بعض النساء ليومنا هذا، والدكاكين العتيقة، تدافع عن الماضي. بينما يشير أسفلت الطريق والكوافير الحديث والمطبعة الجديدة ونادي الألعاب الإلكترونية وأطباق الأقمار الاصطناعية إلى وجه الحاضر.
ويبدو طريق الجمالية وقد تغطّى بأسفلت الحضارة الذي طمس الأرض الترابية القديمة، وفوقه تتجاور المتاجر القديمة، ومحلات الفاكهة في موضعها نفسه المذكور في الرواية، والمخازن، وعربات الكارو، ودكاكين الفحم، والورش والمطاعم، وبائعو الروبابيكيا، والمكوجي التقليدي، ولا يزال الزحام والضوضاء على حالهما. وتمتلئ المنطقة بالآثار الإسلامية الفريدة، ومن أبرزها المسافر خانة ومسجد سيدي مرزوق الأحمدي.
و"السُّكَّريَّة"، كما أبرزتها الرواية، هي ذاكرة الآلام والسجن التاريخي القديم المندثر. وهي في زمن الرواية منطقة الحلوى والمكسَّرات والسكَّر والشموع والغوايش والعرائس والفوانيس الملونة. وهي في عصرنا الراهن ملتقى عشرات المحلات والورش التي تعرض كل أنواع الشموع والفوانيس والغوايش والأكسسوارات، والمكسَّرات والياميش والسكر والحلوى، ومعظمها قديم للغاية، ورثه الأبناء عن جدودهم.
ولعلّ أحدث ما شهدته وكالة السكرية العتيقة هو أحد أندية الألعاب الإلكترونية، ولم يكن عجيباً أن يوجد في هذا المكان، فهناك مثيله في "قصر الشوق" وفي "زقاق المدق" الأثري في القاهرة الفاطمية.
ولعلّ تلك التغيّرات تستدعي ما كان يصوّره محفوظ في ثلاثيته من لهو أبناء عائلة السيد أحمد عبد الجواد في هذه المنطقة بالتزحلق على المنحدر فوق لوح الخشب، قبل ظهور أندية الألعاب الإلكترونية بسنوات طويلة.
أما مستجدات "زقاق المدق" الضيّق، المبلّط بالحجارة، الذي حدّد محفوظ موضعه في روايته بأنّه "قرب الصنادقية، أمام جامع السلطان المملوكي بَرْسِباي، في منطقة الجمالية"، فإنّها كثيرة، ودالة. ومنها المكتبة العصرية ومحل العطور عند ناصية الصنادقية، والبلاط الجديد الذي غطّى البلاط القديم، وكشك السجائر، وورشة الجواكت الجلدية. وهناك السلالم الجديدة، التي حلّت مـحـل المنحدر الذي كان يقود في الرواية إلى الإسطبل، الذي لم يعد له وجود.
وتتمتع بيوت الزقاق القليلة في الوقت الحالي بمظاهر المدنية، كالكهرباء والفضائيات والاتصالات الحديثة والإنترنت وغيرها. ويتلقّى أبناء المهنيين والحرفيين في الزقاق التعليم في المدارس والجامعات.
وبالتالي، فلم يعد غريباً أن يسكن في الزقاق جامعي أو مثقف، بعدما كان وجوده في الزقاق مستحيلاً، كما ذكرت الرواية، التي رمزت بالزقاق المسدود إلى مصر المأزومة المختنقة تحت وطأة الاستعمار البريطاني والحرب العالمية الثانية، في أربعينات القرن الماضي.المكان الرمزي والفانتازي
ومن المكان الجغرافي في روايات محفوظ الواقعية الأولى، إلى المكان الرمزي والفانتازي في روايات وأقاصيص محفوظية أخرى لاحقة، مثل "قشتمر" و"الباقي من الزمن ساعة" و"الحب فوق هضبة الهرم".
في هذه الروايات، وغيرها، قد يحيل الانحدار الجغرافي للمكان في مرضه وشيخوخته إلى التراجع التاريخي والقيمي والسلوكي والإنساني، كما قد يتحول المكان إلى أسطورة ليلائم لامعقولية الأحداث وجنون الشخوص الدرامية في بعض الأحيان.
يتساءل نجيب محفوظ في روايته "قشتمر" عن العباسية القديمة "هل بقي منها أثرٌ؟ أين الحقول الفسيحة والبيوت ذات الحدائق الخلفية والسرايات والقلاع والهوانم؟". ويشير إلى أنّها لم يعد فيها سوى "غابات من الأسمنت المسلّح، ومظاهرات من المركبات المجنونة"، إلى جانب "الضجيج والضوضاء وأكوام الزبالة". إنّه تدمير المكان الذي يحيل إلى تدنّي البشر وتفسّخهم.
وإنّ مفتاح قراءة هذه الرواية المكانية هو ثنائية الثابت والمتحوّل، حيث تدور الأرض حول محور ثابت. والأرض هنا هي المكان والأحداث والشخصيات، والمحور الثابت دائماً هو "مقهى قشتمر" التاريخي، الذي تحمل الرواية اسمه المملوكي، الذي يحيل إلى العراقة والأصالة وتحّدي الزمن والتقلّبات المكانية والأخلاقية. فالأصدقاء أنفسهم يهرمون، والمجتمع يمر بتحولات وسقطات كثيرة، ومقهى قشتمر باقٍ لا يتغيّر.
وفي "الحب فوق هضبة الهرم"، يأخذ المكان بعداً مختلفاً، هو البعد الفانتازي المفرط في الخيال، حيث يصير المكان نفسه أسطورة تعادل أسطورية الفعل الدرامي. وتصوّر الرواية رحلة شاب جامعي مثقف، تضخمت همومه بسبب البطالة و الفراغ، وصارت الرغبة في الزواج محور حياته الوحيد. ولأسباب اقتصادية، لا يتمكن من إتمام زواجه من زميلته في العمل.
ويصل الحبيبان إلى أنّه لا حل سوى ممارسة الجنون، ويقرّران الزواج سرّاً، ولكنهما لا يمتلكان مكاناً للإقامة معاً. وهكذا، يظهر المكان الأسطوري، حيث يذهبان إلى هضبة الهرم، سعياً وراء الجنون اللامحدود. وهناك، يصير لقاؤهما الحميم حالة مكتملة من جنون المكان، وجنون الزمان، وجنون الحدث، وجنون الشخوص. إنّها بطولة المكان المحفوظي الذي لا حدود لانطلاقاته!إضاءات متنوعة
ومما يتضمنه برنامج "مصر ضيف شرف"، في معرض أبوظبي للكتاب المنعقد تحت شعار "هنا.. تُسرد قصص العالم"، وفق وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني، محاور متعددة لفعاليات ثقافية وفنية، منها افتتاح معرض مستنسخات قطاعي الفنون التشكيلية، ودار الكتب والوثائق القومية، وتدشين المعرض الوثائقي "نجيب محفوظ بين الوظيفة والمكتبة".
كما تُقام سلسلة من الندوات والأمسيات والموائد المستديرة حول العلاقات الثقافية المصرية- الإماراتية، والتراث الثقافي العربي الحي، وإسهام الأصوات النسائية المصرية في الرواية العربية، وغيرها.
أما برنامج الشخصية المحورية، المخصص بالكامل عن نجيب محفوظ (1911-2006) الفائز بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، فيشتمل على مجموعة من الندوات والجلسات النقدية والأنشطة، الموزعة على كافة أروقة المعرض.
ويغطي البرنامج أهم الجوانب الإبداعية والإنسانية في حياة نجيب محفوظ ومسيرته الممتدة، متقصياً أثره الباقي إلى يومنا هذا في ذاكرة الأجيال. ومما يتضمنه البرنامج مناقشات مثمرة حول "محفوظ.. كمرآة للتاريخ والمجتمع"، وجلسة "شلّة الحرافيش"، وندوة "نجيب محفوظ والنقد"، وجلسات نوعية من قبيل "نجيب محفوظ في عيون العالم"، "أحفاد نجيب محفوظ"، "عوالم نجيب محفوظ"، "روايات نجيب محفوظ المصوّرة بشكل جديد".
كما تُعرض للمرّة الأولى ندوات احتفالية مسجّلة من أرشيف معرض القاهرة الدولي للكتاب، لاحتفالية أقيمت في كانون الثاني/ يناير 2002، لمناسبة بلوغ محفوظ عامه التسعين آنذاك. ويُضاف إلى ذلك، العرض الوثائقي النادر بعنوان "عالم نجيب محفوظ"، بالتعاون مع القطاع الوثائقي بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية. ويستعرض الفيلم الوثائقي حديث محفوظ عن رواياته، وذكرياته عنها في أثناء تجوّله في الشوارع والحارات القاهرية العتيقة.