الدولة تزور شمالها: فهل تستعيده؟

بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

الدولة تزور شمالها: فهل تستعيده؟

بين شوارع طرابلس الغاضبة وحقول عكار المهملة، لا ينهار الأمن فقط، بل تنهار معه صورة الدولة وهيبتها، ويتقدّم بدلاً منها نموذج متوحّش من "الزعامة المحلية" التي تحكم بالسلاح والمولدات والخوّات. لم يعد هناك مواربة في توصيف الواقع: مناطق شمالية سنّية تحوّلت إلى جزر أمنية خارجة عن السيطرة، تُستثمر وتُدار بخليطٍ من العشائرية، والميليشيات، والتواطؤ السياسي.

في هذا الفراغ، لم يتأخر "حزب الله" في الدخول على الخط. لا عبر البندقية هذه المرة، بل من باب الاستثمار السياسي الماكر، مستغلاً ضعف النخب السنية، وتآكل قدرتها على اتخاذ القرار، وانشغالها بتقاسم الفتات داخل طوائفها. الحزب لا يفرض نفسه بالقوة، بل ينتظر أن ينهار الآخرون ليتسلّل تحت يافطة "الفراغ يجب أن يُملأ".

 

هنا تكمن خطورة ما يجري: نحن أمام مشهد تفكك داخلي يُنتج تماسكًا خارجيًا. والمفارقة أن من يفقد السيطرة على مناطقه، يُسلّمها للخصم بحجّة العجز. وكأن طرابلس وعكار تُدفعان بهدوء إلى أن تتحولا ساحة لتصفية الحسابات بدل أن تكونا مساحة للقرار الوطني.

 

لكن، وسط هذا الركام، تبرز خطوة مختلفة. رئيس الحكومة نواف سلام اختار أن تكون زيارته الأولى إلى الشمال أمنية بامتياز. لا لقصّ الشريط، بل لقصّ شريان الفوضى. ما أعلنه في بيانه الوزاري بدأ يترجم ميدانيًا: منضبط، حازم، يفتح الملفات، ويكسر الصمت الطويل حول شبكة الفساد والتسيّب التي عشّشت في مفاصل الدولة والأمن والقضاء.

 

الرسائل واضحة: لا حصانات بعد اليوم. قضاة، وزراء، ضباط، وحتى "أصحاب الدولة" المزيفون الذين حكموا الشمال خارج القانون، جميعهم في مرمى الحساب. من توقيف قاضٍ إلى استدعاء وزراء سابقين، إلى فتح ملفات فساد في قضية نهر البارد، يتشكّل مشهد جديد: دولة تُحاكم نفسها.

 

وهنا الرهان الأكبر. فالإصلاح الأمني الحقيقي لا يتمّ فقط بتبديل الوجوه، بل بكسر بنية الولاء للزعامات والفوضى. لن يستقيم شمال لبنان طالما ما زال فيه قادة ميليشيات يتحدّون الدولة أمام أعين الناس. ولن ينهض ما لم يُفهم أن الأمن ليس وظيفة، بل عنوان لكرامة المجتمع.

 

المعركة اليوم ليست ضد فئة أو طائفة. بل ضد النموذج البديل للدولة: حيث يسود من يملك السلاح، ويُطاع من يقطع الطرق. إنها مواجهة مع ثقافة الانهيار قبل أن تكون مع أدواتها.

 

نعم، طرابلس وعكار ليستا ساحة مستباحة ولا أرضًا سائبة. ومن يظن أن الفوضى قدر الشمال، لم يسمع بعد الصوت القادم من قاع المعاناة: لا أحد يملك الحق في خطف الشمال من أهله.

 

إما أن نواجه الحقيقة، أو نبتلع الهزيمة ونحن نراقب من النوافذ كيف تُكتب خرائطنا من جديد.