تاريخ ودور مجموعة التأثير الصهيونية في السياسة الأمريكية الخارجية

بقلم د. مصطفى علوش خاص مراسل نيوز

تاريخ ودور مجموعة التأثير الصهيونية في السياسة الأمريكية الخارجية

حلقة من سلسلة

الجزء الأول

"مطر ناعم في خريف حزين والمواعيد خضراءُ... خضراءُ والشمسُ طين

لا تقولي رأيناك في مصرع الياسمين كان وجهي مساء وموتي جَنين

وأنا لا أُريد من بلادي التي نسيتْ لهجة الغائبين غير منديل أُمي وأسباب موت جديد"

محمود درويش

 

 

تم تنظيم المكونات الرئيسية للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة في ربيع عام 1954 ، بعد ست سنوات من إعلان دولة إسرائيل، استجابة لأزمة دبلوماسية أمريكية-إسرائيلية، اندلعت في أكتوبر 1953. فقد قتل الجنود الإسرائيليون بقيادة الضابط أرييل شارون أكثر من ستين قرويا فلسطينيا في قرية قبية، بالضفة الغربية، مما أثار إدانة واسعة النطاق. ردا على ذلك ، احتشد اليهود الأمريكيون للدفاع عن إسرائيل بطرق جديدة. ظهرت اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة (أيباك) ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى ، كسمتين بارزتين لسياسات مجموعات التأثير الصهيونية في أمريكا. اتحدت منظمات الجبهة اليهودية الصهيونية الموحدة وانبثقت من خلالها الاتصالات العابرة للحدود مع القادة الإسرائيليين لنشر الدعاية الإسرائيلية. هذا ما أسس لإجماع متين للدفاع عن إسرائيل فصار إطارا دائمًا في الحياة السياسية الأمريكية.

 

 

 تم إنشاء هذا اللوبي في العديد من المدن في الولايات المتحدة، وليس فقط في واشنطن العاصمة ونيويورك، وله أيضًا فروعه في تل أبيب في السنوات التي تلت تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948. كان يهود الولايات المتحدة الأكثر نشاطا في دعم مصالح إسرائيل، وغالبًا، وإن لم يكن دائمًا، كانوا يعرفون عن نفسهم كصهاينة. أصبح لهؤلاء القدرة على التأثير بقوة على توجهات الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص شؤون الشرق الأوسط، ومن ثم لاحقًا في الشؤون العالمية بالإجمال. وفي معظم الحالات أتت التدخلات لخدمة رغبات وتوجيهات قادة إسرائيل، بمختلف أحزابهم. فكان لهذا الأمر تداعيات قوية على العلاقات الخارجية للحكومات الأمريكية. وفي الوقت نفسه، شكلت التأثيرات الداخلية لليهود الأمريكيين وتفاعلاتها المعقدة بينهم والقادة الإسرائيليين وجهات تطور اللوبي الإسرائيلي في أمريكا.

ظهر إسم "اللوبي الأمريكيي من أجل إسرائيل" في ثمانينات القرن العشرين، متجاهلًا عن قصد تعبيري اليهودي والصهيوني، للإيحاء بأنها حركة أمريكية صرف للدفاع عن إسرائيل على أسس سياسية وأخلاقية تتمثل بما سمي بالقيم الديموقراطية الأمريكية. مع ذلك، فإن تاريخها الحقيقي، وخاصة بداياتها في أوائل خمسينيات القرن العشرين بقيت غامضة عن قصد، لإبعاد الشبهة عن قضية مجزرة قبية التي كانت هي السبب المباشر لتأسيس اللوبي. كان الاسم الأصلي لهذه المنظمة هو اللجنة الصهيونية الأمريكية للشؤون العامة، وقد بدأت عملياتها في عام 1954. ولكن، وبالرغم من وجود العديد من الدراسات الجامعية الممتازة والدقيقة حول العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل في خمسينيات القرن العشرين، فإن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن هذه الحقبة التكوينية في تنظيم القوى الموالية لإسرائيل في الولايات المتحدة قد أهملت عن قصد في تاريخ اليهود الأمريكيين. وينطبق الشيء نفسه حتى على الأعمال المتعلقة بالصهيونية الأمريكية. أهملت الدعاية في معظمها حقبة ما قبل عام 1948 وكيفية تكاثر اليهود في فلسطين منذ بدايات القرن العشرين ومنها التفاصيل حول السياسات الاستعمارية البريطانية والأوروبية حول الموضوع، كما لا يذكر أبدًا وجود شعب معين قبل تلك الفترة في أرض فلسطين، ولا حتى تقرير لجنة كينغ-كراين الأمريكية سنة 1919 التي أوصت بعدم دعم فكرة إنشاء وطن يهودي في فلسطين. كما تصف الرواية الأساسية عن الصهيونية الأمريكية بعد عام 1948 في خمسينيات القرن العشرين بأن ذلك "الوقت" كان مجرد حقبة تحول في الداخل الأمريكي، لكنها حقبة انتهت. بدأ التركيز فقط مع "حرب الأيام الستة" عام 1967 بين إسرائيل والعرب، عندما أصبح اليهود في الولايات المتحدة منشغلين بشؤون الشرق الأوسط لأول مرة بشكل فاعل. لكن القصة بالتأكيد أكثر تعقيدًا من ذلك، لكن تم اختصارها لتركها مبسطة وبديهية ولديها بداية واضحة في التاريخ، بدل البحث في ما سبقها، وهو ما يحصل اليوم بالتأكيد بأن بداية الأمور في غزة كانت مع هجوم حماس في السابع من أوكتوبر.

فقد كشفت التحقيقات الأمريكية الصحفية مرارًا وتكرارًا عن وجود اللوبي وعن هيكليته وأنشطته، لكن الدراسات التاريخية الجادة حول هذا الموضوع بقيت محدودة الانتشار، بالرغم من أهميتها. فظل تاريخ اللوبي مغلفًا بالغموض وكأنه نوع من الديانات السرية. إن شرح قصة أصول اللوبي الإسرائيلي، يمكنه أن يوضح الأبعاد المحلية والدولية المتشابكة لهذه الظاهرة، ويلقي الضوء أيضًا على مسار العمل المؤيد لإسرائيل في أمريكا والعالم. 

لم يكن هذا اللوبي قويًا عندما تشكل لأول مرة في خمسينيات القرن العشرين، ولم يتمكن من إحداث تغيير يذكر في اتجاهات سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكن نشطاءه الأوائل أسسوا خطابًا ونهجًا عمليًا أجبر من تبعهم لاحقًا على احترامه والاقتداء به، حتى بدأ يتظهر تأثيره، وربما سمعته السيئة بحلول عام 1960، عندما ساعد ناشطوه في تأمين مبيعات الأسلحة الأمريكية والمساعدات الحكومة الأمريكية السخية لإسرائيل. بعد ذلك استمر اللوبي في تعزيز العلاقات السياسية والاستراتيجية بين النظامين السياسيين في أمريكا وإسرائيل. فكانت الأسس التي بنيت خلال السنوات الأولى لللوبي تشكل عمق كيفية التفاعلات اللاحقة لليهود وغيرهم من الأمريكيين بخصوص قضايا الشرق الأوسط.

الحقيقة الأساسية للتاريخ التوثيقي الداخلي لللوبي الإسرائيلي في سنواته الأولى هي أنه في بداياته كان ظاهرة يهودية بالكامل، أنشأها نشطاء ومنظمات يهودية أمريكية معروفة، لكن دون مشاركة غير يهودية. تشكلت هذه القوى من خلال الانقسامات والتفاعلات الجوهرية للحياة المجتمعية اليهودية في الولايات المتحدة، بعد الحرب العالمية الثانية. لكن الأهم كان أن الدعم المسيحي الإنجيلي المنظم للقضية الصهيونية كان في حالة ركود في الخمسينات، ولم يعر أي اهتمام بأنشطة هذه المجموعات. فلم ينضم الصهاينة الإنجيليون المحافظون إلى بعض الجماعات اليهودية المؤيدة لإسرائيل إلا بعد سنوات من ذلك التاريخ.

 خلال خمسينيات القرن العشرين، حقق النشطاء اليهود نجاحًا كبيرًا في رأب الصدع بين الصهاينة و "غير الصهاينة" من اليهود الأمريكيين، فأصبح دعم الدولة الجديدة موضوعًا موحدًا بين أكثرية اليهود هناك، بالرغم من الاختلافات العقائدية حول سياسات إسرائيل. أصبحت عندها قضية التأييد لإسرائيل أساسًا لجبهة يهودية أمريكية موحدة. كانت المجموعات الداعمة لإسرائيل حينها تسمى ببساطة يهودية، مثل مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى (الذي بدأ في 1954-1955) ، وصارت مكرسة بشكل أساسي للدفاع عن إسرائيل. من المؤكد أن بعض اليهود الأمريكيين كانوا ينتقدون دولة إسرائيل وسياساتها، وبعضهم كانوا غير مهتمين بها أساسًا. ومع ذلك ، فإن وجهات النظر هذه لم تؤثر إلا هامشيًا في توجهات المنظمات اليهودية الأمريكية. ففي وقت سابق من القرن العشرين، عارض العديد من اليهود الأمريكيين الصهيونية، ويرجع ذلك أساسًا إلى قناعة راسخة بأن اليهود هم مجموعة دينية فقط وليسوا أمة، وذلك لتفادي الظهور في مظهر ازدواجية الانتماء إلى الحال الوطنية الأمريكية. السبب الآخر كان أن المعتقدات العلمانية السياسية تتعارض مع التوجه الديني اليهودي حول الرؤى للتغيير التاريخي وعلاقته مع عودة زمن المسيح المنتظر. ومع ذلك، في ظل الأحداث الكارثية في أوروبا بخصوص اليهود، خلال ثلاثينيات و أربعينيات القرن العشرين، تحولت معاداة الصهيونية داخل الحياة اليهودية الأمريكية من كونها التيار اليهودي الرئيسي إلى وضع أقلوي، وتم حصارها وتحييدها عن القرار. بحلول عام 1950، تم تهميش القوى اليهودية المناهضة للصهيونية، وتمكنت الجماعات السياسية اليهودية من جعل الانتقادات اليهودية المعارضة للإجراءات الإسرائيلية تدور في إطار نظري ولطيف.

بعد كل هذا، تطورت حتى فكرة الصهيونية في الولايات المتحدة لتتلاءم مع الانتماء إلى أمريكا وإسرائيل في الوقت ذاته. هذا ما أثار في البداية غضب بعض الصهاينة الأصوليين الذين يعتبرون أن الصهيونية تعني عودة كل اليهود إلى أرض الميعاد. ولكن هذا التطوير في مفهوم دعم إسرائيل من دون الهجرة إليها، وسع قاعدة الدعم النشط لإسرائيل بين اليهود الأمريكيين غير الراغبين بترك الولايات المتحدة الأمريكية. كان الصهاينة في أوروبا يعتبرون عيش اليهود خارج أرض فلسطين بمثابة المنفى. فاعتبروا أن اليهود بحاجة إلى أرض الميعاد التوراتية من أجل الهروب من معاداة السامية في أوروبا، حتى يصبحوا أمة بين الأمم. لكن اليهود الأمريكيين، وحتى بعض الصهاينة منهم، كان لهم تحفظات حول ضرورة العودة لكل اليهود، رغم احترامهم وتقديرهم لمن قرر ترك أمريكا والذهاب إلى إسرائيل. لكن، بحلول نهاية خمسينيات القرن العشرين، تم حل هذه الإشكالات الأيديولوجية لتلائم معظم اليهود الأمريكيين. تلاشت التعريفات التقليدية للصهيونية المبنية على العودة إلى صهيون، لصالح مفهوم صهيوني جديد يتلخص بدعم فعال ونشط وأعمى لدولة إسرائيل، بغض النظر عن المكان الذي يختاره المرء للعيش فيه. ولكن، على الرغم من كل ذلك، فقد كانت التوجيهات السياسية وتصرفات قادة إسرائيل المحرك الرئيسي لتصرفات اللوبي الداعم لإسرائيل. وكان ذلك واضحًا عشية انتشار أخبار مذبحة قبية سنة 1953، وعلى الرغم من أن ناشطي اللوبي بقيادة إسحق كينين، كانوا يعلمون بطبيعة الجريمة، لكنهم قاموا بجهد كبير لتغطية هذه الجريمة في الإعلام الأمريكي والتقليل من أهميتها، واصفين إياها بأنها كانت عبارة عن اشتباكات مع مسلحين فلسطينيين خرجت عن السيطرة. وبما أن الجمهور الأمريكي بعيد عن تقصي الحقائق، فقد ذهبت المسألة طي النسيان. فبالمقابل، لم يكن هناك أي منظومة عربية جدية لمواجهة الأكاذيب المنظمة والفعالة لنشطاء اللوبي اليهودي، الذي تمكن بإصرار من إعادة توجيه الاهتمام الأمريكي بعيدا عن مسألة قبية، وبالتالي عكس الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأمريكية لعقاب إسرائيل.