بعد 43 سنة… نواف سلام يحرّر بعلبك من النسيان
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لم تكن زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى بعلبك مجرّد محطة رسمية ضمن جدول الأعمال، بل كانت لحظة تحوّل، كتبت سطراً جديداً في تاريخ العلاقة بين الدولة والمناطق التي طالما وُضعت في هامش السياسة وخارطة التنمية. في بلد اعتاد أن تُرسم القرارات من فوق وتُلقى على الأطراف بفتور، قرّر سلام أن يبدأ من القاع، من بعلبك، من المدينة التي أُهملت لسنوات وتحولت في الخطاب الرسمي إلى مساحة رمادية بين الدولة واللا دولة.
ولأول مرة منذ أكثر من أربعة عقود، وطأت قدم رئيس حكومة أرض بعلبك، لا محمولاً بحماية بروتوكولية، بل محاطاً بثلاثة وزراء معنيين بأكثر الملفات سخونة: الدفاع، والداخلية، والأشغال. لم يأتِ سلام ليأخذ صورة، بل ليصنع موقفاً.
من هناك، من أرض تعبق بتاريخ المقاومة والمظلومية، أطلق نواف سلام رسائل ثلاثية الأبعاد: الدولة حاضرة، الأمن مُنظَّم، والتنمية ليست وهماً. لكن الأهم، أنه أعلن - من دون أن يرفع صوته - أن زمن تهميش بعلبك انتهى، وزمن التكامل بدأ.
سلام لم يخطب، بل تصرّف كرجل دولة يفهم الجغرافيا السياسية والاجتماعية للبنان الحقيقي. تحدث عن ضبط الحدود مع سوريا، لا عبر التهديد، بل عبر التنسيق مع دار الفتوى والجيش. أدار الملف الأمني بحسّ سيادي، لكنه أيضاً مدّ اليد للأهالي.
في بلدة طفيل، وعرسال، ورأس بعلبك، حيث المعابر غير الشرعية كانت جرحاً مفتوحاً في خاصرة السيادة، وضع الرئيس خارطة طريق واقعية: حلول موقتة تسبق الدائمة، ونقاط عسكرية تُثبت سلطة الدولة وتمنع الإحتكاك، لا تكرّس الانقسام.
الرجل الذي جاء من خلفية دبلوماسية هادئة، فجّر زلزالاً سياسياً بلا صراخ. أثبت أن الزعامة لا تُصنع بالصوت العالي بل بالفعل الهادئ العميق، وأن القيادة لا تفرض نفسها في المهرجانات، بل في الميادين التي تخشاها الدولة عادة.
بعلبك كانت تُوصَف دوماً بأنها "خارج الدولة"، فقرّر سلام أن يجعلها "قلب الدولة". زيارته كانت بياناً سيادياً بامتياز، لكنها أيضاً دعوة للوحدة الوطنية من حيث لا يتوقع أحد. لأنه ببساطة، لا يمكن بناء دولة من دون الأطراف، ولا يمكن كسب ثقة اللبنانيين ما لم تُطرق أبوابهم قبل صناديق الاقتراع.
الرسالة وصلت. ليس لأهالي بعلبك وحدهم، بل لكل لبناني يشعر بالتهميش. ولكل عربي يتابع المشهد اللبناني ويتساءل: أين الزعيم الذي يفهم بلده دون أن يقسّمه؟ نواف سلام قدّم الجواب. من بعلبك، أثبت أنه ليس رئيس حكومة فقط، بل زعيم محتمل للبنان، كل لبنان.