لبنان خارج الحسابات: دولة تُفاوض في الظل... وتصمت في العلن

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لبنان خارج الحسابات: دولة تُفاوض في الظل... وتصمت في العلن

في زمن تُعاد فيه صياغة التوازنات الإقليمية من غزة إلى طهران، لا يبدو أن لبنان حاضر فعليًا على طاولة التفاهمات. لم يعد ملفًا قائمًا بذاته، بل بات يُذكر كحاشية داخل الملفات الكبرى. سؤال متكرر يُطرح في الكواليس الدولية: "ماذا عن لبنان؟" ويأتي الجواب: "دعه يهدأ فقط... ثم نعود إليه لاحقًا، إن لزم الأمر."

 

زيارة المبعوث الأميركي توماس باراك إلى بيروت مؤخرًا، مرتين خلال أسبوعين، لم تحمل مبادرة واضحة أو تعهدًا ملموسًا. بل حملت إشارات واضحة على أن لبنان لم يعد بندًا أساسيًا في الأولويات الأميركية، بل يُدار كامتداد للملف السوري، أو كعامل ضبط على جبهة الجنوب، في ضوء المساعي لتهدئة الصراع في غزة.

 

الرسالة غير المعلنة من واشنطن واضحة: لسنا هنا لنتدخل أو نضغط؛ فقط تأكدوا من أن لبنان لن يُفسد التفاهمات الجارية.

 

 مفاوضات غير رسمية... خارج الدولة

 

منذ عقود، يشكّل سلاح "حزب الله" معضلة لبنانية الطابع، ذات أبعاد إقليمية. لكن في المرحلة الحالية، لم يعد هذا السلاح يُناقش باعتباره مسألة لبنانية داخلية. فحين يصرّح المبعوث الأميركي بأن "السلاح شأن داخلي"، فإنما يُسقط أي نية في الضغط أو المقايضة أو حتى الوساطة.

 

في المقابل، تسري معلومات عن مفاوضات جانبية تُدار بعيدًا عن المؤسسات الدستورية، بين مسؤولين محليين يمثّلون وجهات محددة، تتناول مستقبل الصواريخ الدقيقة وإمكانية إعادة تموضع "حزب الله". هذه المحادثات لا تُوثّق رسميًا، ولا تُعلن للرأي العام، ولا تمر عبر الحكومة أو البرلمان، مما يُكرّس واقعًا سياسيًا موازٍ للدولة.

 

 

محاولات خجولة لاستعادة القرار

 

رغم هذا المشهد الرمادي، لا يمكن تجاهل بعض المحاولات الهادئة لإعادة الاعتبار للدولة.

رئيس الحكومة نواف سلام يسعى جاهدًا لتثبيت قواعد القرار ضمن مؤسسات دستورية، ورفض تحويل الحكومة إلى واجهة طائفية أو سياسية مغلقة.

ورئيس الجمهورية، رغم ضعف الضجيج الإعلامي، لا يزال يؤكد على أن مناقشة أي ملف سيادي – من السلاح إلى الحدود – يجب أن تمر عبر الدولة، لا عبر التفاهمات الجانبية.

 

في زمن الانهيار، قد يكون مجرد التمسّك بالشكل الدستوري موقفًا وطنيًا بطوليًا بحد ذاته.

 

 لبنان على الهامش الإقليمي

 

بينما تُدار التفاهمات من غزة إلى دمشق، وتُرسم خطوط التهدئة بين طهران وواشنطن، يُطلب من لبنان مهمة واحدة فقط: عدم التعطيل.

لا مطالب بالإصلاح، ولا دور فاعل في أي تفاهم، بل فقط ضمان عدم التصعيد. هذه هي وظيفة لبنان في خريطة التهدئة الجديدة، من وجهة نظر الخارج.

 

حتى خطة نزع سلاح "حزب الله" التي طرحتها واشنطن، والتي تلقى اللبنانيون نسخة منها، جاءت بلهجة "ترضية سياسية" أكثر منها مشروعًا للتنفيذ. الرد اللبناني عليها – بحسب مصادر دبلوماسية – لم يتضمن التزامات واضحة، بل أعاد التأكيد على أن "السلاح شأن داخلي".

 

 من يملك شرعية التفاوض؟

 

المفارقة أن أبرز القرارات المصيرية تُناقش داخل لبنان، لكن خارج الدولة. من يتفاوض؟ من يقدّم التنازلات؟ من يفتح الخطوط مع الخارج؟

لا بيانات رسمية، لا محاضر جلسات، ولا حتى مسؤول واضح يُسائل أمام المؤسسات أو الناس.

 

السكوت هنا ليس دبلوماسية… بل إلغاء للصوت الشرعي الوحيد الذي يجب أن يُفاوض باسم اللبنانيين: الدولة.

 

 لبنان ليس فقيرًا... بل مُفقَر عن عمد

 

اللبنانيون لا يعيشون أزمة اقتصادية فقط، بل أزمة سيادة.

القرار السياسي بات يُدار بالوكالة، والملفات الكبرى لم تعد تمر عبر الحكومة أو المجلس النيابي، بل في دهاليز الاتصال غير الرسمي، وفي غرف مظلمة بعيدة عن عين الدولة.

 

 العودة إلى الدولة أو المجهول

 

إذا استمر لبنان على هذا النحو – دولة تتفاوض بالظل وتصمت في العلن – فسيبقى مجرد مساحة جغرافية تنتظر إذن الدخول إلى الطاولة.

أما الاستحقاق الحقيقي، فهو في استعادة الدولة حقّها الحصري في القرار السيادي، وإعادة ربط التفاوض بالمؤسسات المنتخبة، لا بالتمثيل الموازي.

 

فلبنان لن يُحترم خارجيًا إذا لم يحترم نفسه أولًا.