أسانج أسس "ويكيليكس" وأطلق موجة تغيير في الإعلام الرقمي

أسانج أسس "ويكيليكس" وأطلق موجة تغيير في الإعلام الرقمي

بطل يدافع عن حرية التعبير ومتهوّر مُسرّب لمعلومات سرّية عرّضت مصادرها للخطر؟ عبر هذا السؤال وغير من سيول الأسئلة والنقاشات، تشكّلت مروحة طيف واسعة من المواقف على مدى السنوات الماضية تجاه خبير المعلوماتية الأسترالي جوليان أسانج، مؤسس موقع "ويكيليكس" Wikileaks الذائع الصيت، وقضيته المعروفة عن تسريب وثائق سرية من داخل الجيش الأميركي تتعلق بحربي العراق وأفغانستان. وتنقلت قضيته بين واشنطن وسيدني ولندن وغيرها.

وقد توصل أسانج إلى صفقة يقر فيها بالذنب مع السلطات الأميركية مقابل إنهاء اعتقاله في بريطانيا، وسط ترحيب من الأمم المتحدة باعتبارها "خطوة مهمة باتّجاه تسوية قضيته نهائياً".

وبحسب ما تناقلته وكالات الإعلام، وافق أسانج على الإقرار بتهمة واحدة تتمثل بالتآمر للحصول على معلومات تتعلق بالأمن الوطني الأميركي، ونشرها على الإنترنت. ومن المقرر أن يمثل أسانج في جلسة استماع أخيرة أمام محكمة في جزر ماريانا الشمالية التابعة للولايات المتحدة يوم الأربعاء. وتؤكّد ستيلا زوجة أسانج الصفقة وضمان حريته، بقولها إن مؤسس ويكيليكس سيكون "حراً" بمجرد أن يوقع القضاء الأميركي على صفقة الإقرار بالذنب التاريخية.

 

من القرصنة الإلكترونية إلى تجربة "ويكيليكس"

ولد خبير الكومبيوتر الأسترالي (52 عاماً)، في تاونسفيل في كوينزلاند عام 1971. تنقّل كثيراً في طفولته بين المدراس. وفي مراهقته، بدأ باكتشاف واستخدام موهبته في القرصنة الإلكترونية. وتبنهت الشرطة الأسترالية إلى نشاطاته بسبب ارتكابه مخالفات كثيرة. وآنذاك، أقر بالتهم التي وجّهت إلى نشاطاته، ودفع غرامة عليها.

وفي عام 2006، أطلق أسانج موقع "ويكيليكس" بالتعاون مع مجموعة من الناشطين وخبراء تكنولوجيا المعلومات المتقاربين معه فكرياً، معتبراً أنّه "سيصنع معياراً جديداً للصحافة الحرّة".

والأرجح أن أسانج لم يبالغ في مزاعمه عن مستقبل "ويكيليكس"، على الرغم من عدم وضوح أنه حقق ما وعد به. ربما يصح القول إنه أحدث تأثيراً مفصلياً على مشهدية الإعلام الرقمي، وبالتالي مفهوم الصحافة، يعتبر البعض أنها مهدّت الطريق أمام قوّة ذلك الإعلام ونفوذه في زمن الإنترنت والشبكات الرقمية. وقد تحوّلت "ويكيليكس" إلى منهجية ونسق من المفاهيم، برز تأثيرها في الإعلام الرقمي عبر محطات كثيرة، لعل أبرزها قضية "وثائق بنما" التي حصلت عليها صحيفة ألمانية و"الاتحاد الدولي للمحققين الصحافيين"، ووزعت على عشرات المواقع الإعلامية على الإنترنت، وأحدثت ضجة سياسية واقتصادية كبرى.

وثمة من يعتقد بأن تجربة "ويكيليكس" أسهمت في ظواهر إعلامية معاصرة على غرار "صحافة المواطن" وتجربة الـ"بلوغرز" التي عبّرت أيضاً عن مدى التغيير الذي أحدثته المعلوماتية والاتصالات المتطورة في علاقة الإعلام مع الجمهور.

وفي مسار متصل، انتشرت عالمياً كلمة "ويكيليكس" باعتبارها صفة عن نوعية من الصحافة. وباتت صفة تطلق على أعمال صحافية تستند إلى الوصول لوثائق أو معلومات موثوقة تحجبها السلطات والمؤسسات الرسمية، وتغامر بنشرها عبر الفضاء السيبراني مراهنة على الجمهور. ومثلاً، أدت "وثائق بنما" إلى خضات سياسية طاولت شخصيات ومؤسسات وسلطات نافذة، لكنها كلها لم تستطع درء أمواج تأثيرات نشر "وثائق بنما" عنها، بل وقفت عاجزة أمام الصدى الجماهيري الواسع لنشر تلك الوثائق الممنوعة سلطوياً.

قبل "ويكيلكس"، لم يحصل نشرٌ لـ250 ألف وثيقة حساسة ومحجوبة رسمياً دفعة واحدة. لقد غيّرت "ويكيليكس" طريقة وثقافة التعامل مع المعلومات في عصر الإنترنت. كما أحدثت انفجاراً هائلاً في السياسة، الأمن، الأبحاث والعلوم وغيرها. وتأثرت الصحافة بالتحدي الذي رمته "ويكيليكس" في وجهها.

بعد "ويكيليكس"، تصاعد انتشار صُنّاع على وسائط التواصل الرقمي الاجتماعي، بل بات بعضها مرجعيات ومصدراً للأخبار لدى الجمهور. ولنتذكر أن عدد المتابعين يولّد انطباعاً بالموثوقية لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي.

في مرحلة لاحقة، أنتجت هذه الحالة كمية هائلة من المعلومات الزائفة والمضللة، ما هدد عمل وسائل الإعلام التقليدية. وبدلاً من أن تنصبّ الجهود على نقل الخبر بطريقة مهنية وفقاً لمصادر موثوقة، بات كثير من وسائل الإعلام مستنزفاً في عملية التحقّق وكشف الخبر الزائف والإضاءة على ما هو مُضلل.

وفي هذا الإطار، يُشار إلى مفارقة قوامها اهتمام الصحافة التقليدية التي انخرطت بمجملها في الإعلام الرقمي، بقضية أسانج، ما أكسبها قوة وزخماً.

من جهة أخرى، حصل أسانج على معلوماته من عملية تجنيد تقليدية للجندية شيلسي مانينغ، المزدوجة الهوية الجنسية، وقد "حملت" اسم برادلي حين حدث تسريب وثائق الجيش الأميركي إلى أسانج.

ولا تنحصر قضية "جوليان أسانج" في بعدها القانوني المتمثل في الحصول على وثائق رسمية بطرق غير قانونية. إذ أثارت نقاشاً عن الحق الديموقراطي في التعبير المكرس في أميركا مضخماً، إضافة إلى تبنيه بطرق مختلفة في أستراليا وبريطانيا ومجموعة دول ديموقراطية. واهتمت الصحافة الاستقصائية بهذا البعد الديموقراطي، لأنه يعطي عملها قوة جديدة.

في المقابل، رأى البعض أن ما فعله أسانج لم يكن سوى تجنيد من النمط القديم، وحتى أنه لم يحصل عليها بفضل مهارته التقنية في الحوسبة والمعلوماتية. هل يحق لصحافي أن يصنع جاسوساً؟ هل يحق للدول أن تحول مواطنيها الذين يعملون في مؤسساتها إلى "كاتمي أسرار"، بدل أن يساهموا في إطلاع الشعب على الحقائق، وهو أمر أساسي في الديموقراطية؟ الأرجح أن الأسئلة لا تنتهي.