لماذا تُعد بوكروفسك محوراً مفصلياً في الصراع الروسي الأوكراني؟
يعتبر محور مدينة بوكروفسك واحدا من أسخن جبهات القتال على الإطلاق بين أوكرانيا وروسيا، منذ عدة شهور، ففيه تدور معظم الاشتباكات، ويسقط معظم القتلى والمصابين في كلا الجانبين.
وحسب هيئة الأركان الأوكرانية، يشهد المحور نحو 100 اشتباك مباشر كل يوم، أي ما يعادل نصف عدد الاشتباكات بكامل الجبهات الممتدة على مسافة تتجاوز ألفا و200 كيلومتر.
وتؤكد الهيئة أن القوات الروسية تخسر فيه يوميا قرابة 200 و300 جندي بين قتيل وجريح، في حين يتحدث الروس عن أرقام مشابهة تخص خسائر القوات الأوكرانية.
لا ينكر الأوكرانيون أن محور المدينة هو الأصعب على قواتهم، وتتقدم نحوها القوات الروسية بوتيرة بطيئة لكنها ثابتة، حتى باتت على بُعد يقل عن 10 كيلومترات منها.
ورغم الصعوبات والخسائر، يفسر الموقع الجغرافي الإستراتيجي الذي تتمتع به المدينة استماتة الروس والأوكرانيين لإحكام السيطرة عليها.
تبعد بوكروفسك نحو 25 كيلومترا فقط عن حدود مقاطعة دنيبروبيتروفسك المجاورة، التي لا يملك الروس فيها موطئ قدم، وهي آخر مدينة في الجزء الغربي من مقاطعة دونيتسك التي يسيطر الروس على أكثر من 55% من مساحتها، وتعتبر واحدة من أهم أهداف حربهم، إذ تشكل مع مقاطعة لوغانسك شمالا ما يعرف بإقليم دونباس.
والسيطرة على بوكروفسك، بحسب أوليغ جدانوف الخبير العسكري والعقيد في قوات الاحتياط، تعني بالنسبة للروس الوصول إلى الطريق الدولي “إم 04” (M04)، وتهديد مقاطعة دنيبروبيتروفسك وقطع إمدادات القوات الأوكرانية من الجهة الغربية تماما.
ووصول الروس إلى بوكروفسك يعني أيضا التمهيد نحو التحرك والسيطرة على كثير من القرى المتبقية غرب مقاطعة دونيتسك، وشمالا نحو كبريات المدن المتبقية فيها، كونستانتينيفكا وكراماتورسك وسلافيانسك”.
لكن كلمة السر وراء “استماتة” كلا الجانبين لا تقتصر على الموقع الجغرافي وحسب، بل على حقيقة أن المدينة تربض على ثروة طبيعية لا مثيل لها عالميا، ولا غنى لاقتصاد أوكرانيا عنها. وتوجد فيها مناجم ضخمة ووحيدة لفحم الكوك النادر، الذي يحمل العلامة “كيه” (K)، والضروري لإنتاج الصلب في أكبر مصانع المعادن بالبلاد.
من جانبه، قال أوليكساندر كالينكوف مدير اتحاد مصنعي المعادن “أوكر ميتالو بروم”، إن هذه المناجم تُعد أحد الأصول الإستراتيجية الرئيسية لكييف في مجال صناعة المعادن، وخسارتها تعني تراجع هذه الصناعة بنسبة تتراوح بين 50 و60%، وبالتالي لن تصبح أوكرانيا دولة تتميز بصادرات فحم الكوك والمعادن.
ويبدو أن هذه الأهمية الحيوية تدفع الشركة المسؤولة عن عمل المناجم إلى استمرار العمل رغم شدة المخاطر، ورغم أن قوات روسيا تبعد نحو 14 كيلومترا فقط عن مبنى إدارة الشركة في قرية “أوداتشنوي”.
وأفاد أندري أكوليتش الرئيس التنفيذي للشركة بأن الموظفين المناوبين يعملون بسترات واقية للرصاص، ويعيش عمال المناجم بأمان في ملاجئ على مسافة بعيدة نسبيا عن خط المواجهة. وثمة ملاجئ خرسانية تحت الأرض وفوقها في المنطقة حتى لا يتوقف العمل.
وأضاف في حديث لوسائل إعلام محلية: “في مثل هذه الظروف، لا يزال 3.5 آلاف شخص يعملون في مناجم بوكروفسك بما يضمن استمرار دوران عجلة الاقتصاد”.
هذا “التفاني” ضمِن لأوكرانيا استمرار عمل مصانعها حتى يومنا هذا، لكن شبح فقدان بوكروفسك ومواردها يخيم على المصنعين.
يقول مدير اتحاد مصنعي المعادن كالينكوف “اعتمادا على مناجم بوكروفسك، زوّدت أوكرانيا نفسها بنحو 90% من حاجتها إلى فحم الكوك في 2023، لكن الأوضاع تدهورت في العام الجاري، وبدلا من إنتاج 10 ملايين طن من الصلب كنا نخطط لها، قد لا يتجاوز حجم الإنتاج 3.5 ملايين طن”.
ولفت إلى أنه إذا خسرت كييف مناجم المنطقة، فستضطر الشركات لاستخدام فحم الكوك المستورد حصرا وعليها قبل ذلك بناء طرق لوجستية مناسبة، الأمر الذي يحتاج إلى ما لا يقل عن عام ونصف العام.
وأضاف: “هذا مكلف جدا، وحجم هذه الواردات قد لا يلبي حاجة المصنعين وسيؤدي حتما إلى زيادة كبيرة في تكلفة المنتجات الأوكرانية، عشرات بالمائة”.
وبرأي مدير اتحاد مصنعي المعادن، يجب أن يظل فحم الكوك في بوكروفسك تحت سيطرة أوكرانيا مهما حصل، لأنه بالنسبة لاقتصادها مسألة حياة أو موت، ووسيلة لا بد منها لانتعاش البلاد بعد الحرب.
يذكر أن أوكرانيا كانت غنية بمناجم الفحم والحديد قبل الحرب، وخاصة في إقليم دونباس جنوب شرق البلاد، وكان ناتجها المحلي يعتمد بنسبة 26.5% على القطاع الصناعي، بما يشمل صناعات التعدين (المواد الخام، قضبان، أسلاك، هياكل)، والصناعات الثقيلة (الدبابات والمدرعات العسكرية، الطائرات المدنية والعسكرية، القطارات، محركات الطائرات وتوربينات الغاز، الجرارات، الحافلات والسيارات).