الأطفال يتعلمون... حتى من دون تركيز

الأطفال يتعلمون... حتى من دون تركيز

أوضحت أحدث دراسة نفسية نُشرت في نهاية شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي في مجلة علم النفس «journal Psychological Science»، أن الأطفال ربما يتعلمون بالقدر نفسه تقريباً سواء حاولوا التركيز في المواد والعلوم التي يتلقونها أو لا. وقال باحثون من جامعة تورنتو الكندية University of Toronto إن هذه المقدرة تُعد مهارة خاصة بالأطفال خلافاً للبالغين الذين يميلون إلى تجاهل المعلومات التي لا ينتبهون إليها.

امتصاص لا إرادي للمعلومات

أكد الباحثون أن الطفل يمتص كل المعلومات المحيطة به بشكل لا إرادي؛ لأن الأطفال يستخدمون كل حواسهم في أثناء التعلم بعكس البالغين الذين يقومون بالتركيز على حاسة معينة في أثناء تعلم شيء معين. وربما يفسر ذلك سهولة التعلم بشكل عام في الصغر عنه في البلوغ.

وعلى سبيل المثال، فإن الطفل الذي يمارس اللعب والجري في أثناء قراءة كتاب معين ولا يهتم بالكلام المكتوب في الكتاب، يظل يستقبل المعلومات عن طريق رؤية الصور وسماع صوت القراءة، بينما يقوم الشخص البالغ بالتركيز على القراءة فقط.

وللتأكد من هذه الفرضية قام الباحثون باختبار مقدار ما تعلمه الأطفال والبالغون عن رسومات لأشياء شائعة بعد تجربتين مختلفتين، حيث تم عرض صور تحتوي على رسومات معينة على مجموعة صغيرة من الأطفال في المرحلة الابتدائية عددهم 42 تتراوح أعمارهم بين 7 و9 سنوات وكان أقل من نصفهم من الذكور (18)، ومجموعة أخرى من الطلاب البالغين عددهم 35 طالباً تتراوح أعمارهم بين 17 و23 عاماً (نهاية المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية) وأيضاً كان عدد الذكور أقل قليلاً من النصف (15).

قام الباحثون بتحييد كل العوامل التي يمكن أن تؤثر في نتيجة التجربة مثل القدرة على الرؤية بشكل سليم سواء بشكل طبيعي أو تم تصحيحه عن طريق نظارة أو إجراء جراحي للطلاب البالغين. وجميع المشاركين من الأطفال والكبار لم يكن لديهم تاريخ مرضي لإصابات الرأس أو الإصابة بالأمراض العصبية المختلفة وكذلك أي اضطرابات نفسية يمكن أن تؤثر على حكمهم على الرسومات أو فهم التعليمات بشكل خاطئ.

وفي التجربة الأولى طلب الباحثون من الأطفال التركيز جيداً والانتباه للرسومات التي تم عرضها. أما في التجربة الثانية فطُلب منهم عدم التركيز على الرسومات وتجاهلها بشكل كامل وإكمال مهمة أخرى مختلفة تماماً.

وبعد كل تجربة كان على الأطفال تحديد أجزاء معينة من الرسومات التي رأوها في أسرع وقت ممكن. ووجد العلماء أن الأطفال تعلموا وتذكروا أشياء (حتى لو كانت بسيطة) عن الرسومات تقريباً بالقدر نفسه في التجربتين.

تجارب التركيز

في المقابل قام الباحثون بتكرار التجربة نفسها على البالغين لمعرفة إلى أي مدى يمكنهم التعلم. وللدهشة استطاع البالغون التعلم أكثر عندما طُلب منهم التركيز على الرسومات فقط بينما لم يتعلموا بالقدر نفسه عندما طلب منهم تجاهل الرسومات والتركيز على شيء مختلف.

أي وبعبارة أخرى لم يتأثر تعلم الأطفال سلباً حتى عندما طُلب منهم عدم الاهتمام والتركيز على المعلومات التي تم اختبارهم عليها. والسبب في ذلك راجع إلى بطء الآلية التي يتطور بها ما يسمى الانتباه الانتقائي selective attention (بمعنى القدرة على التركيز على مهمة محددة وتجاهل بقية الأشياء التي تسبب التشتت) وهذه الآلية لا تنضج بشكل كامل حتى بداية سن البلوغ المبكر.

وكانت الدراسات العصبية السابقة التي أجريت على مخ الطفل وجدت أنه يتعامل مع المعلومات المختلفة التي يتعرض لها بالاهتمام نفسه سواء طُلب منه التركيز عليها أو لا. وفي الأغلب يؤدي ذلك إلى اكتساب مقدار أكبر من المعلومات والبيانات من الأشياء المسموعة والمرئية في البيئة المحيطة بهم، وهو الأمر الذي يفسر براعة الأطفال في تعلم اللغات بشكل خاص ونطقها بلكنتها الأصلية بمجرد احتكاكهم ببيئة تتحدث لغة معينة (في معظم دول المهجر يتحدث الأطفال أفضل من ذويهم البالغين بغض النظر عن مدة وجودهم مقارنة بجيل الآباء) لأنهم يتعلمون دون بذل جهد للتعلم ودون قصد.

وأوضح الباحثون أن بطء آلية تطور الانتباه الانتقائي يحمل العديد من الفوائد في مرحلة الطفولة لأنه يشمل عمليتين منفصلتين تماماً؛ الأولى هي معالجة فائقة لمعلومات معينة بطريقة جيدة enhanced processing، والثانية تشمل ما يشبه فلترة وتجاهل المعلومات غير ذات الصلة بالمهمة المحددة ignoring task-irrelevant information.

ويحتاج الطفل في بداية حياته إلى تعلم العديد من الأشياء المختلفة واكتساب مهارات متنوعة فيما يتعلق بالقراءة والكتابة وتعلم اللغة والتواصل الاجتماعي والتطور العاطفي؛ ولذلك يكون المخ في احتياج إلى كمية معلومات كبيرة جداً تمثل ما يشبه قاعدة للبيانات يمكن استخدامها فيما بعد، ثم يحدث لهذه البيانات التي تم الحصول عليها ما يشبه الفلترة (الترشيح) والتركيز على المعلومات المهمة فقط وإسقاط المعلومات الأقل أهمية مما يساهم في مساعدة الأشخاص البالغين للوصول إلى أفضل أداء في مهمة محددة دون تشتيت المخ في أمور ثانوية.

ونصحت الدراسة القائمين على وضع مناهج تعليمية للأطفال بالاستعانة بنتائج البحث في كيفية تصميم المنهج الدراسي حسب الفئة العمرية. وعلى سبيل المثال بالنسبة للأطفال قبل بلوغ فترة المراهقة تؤكد النتائج فوائد اللعب والتعلم من خلال وسائط متعددة وبيئة دراسية غنية بالمفردات مثل الصور التوضيحية والألعاب التفاعلية. أما بالنسبة للأطفال بداية من المراهقة وحتى البلوغ، فيُعد تحديد هدف عام واضح أو مهمة محددة في بداية الفصل الدراسي أو ورشة العمل أمراً مهماً للوصول إلى نتيجة أفضل.

* استشاري طب الأطفال.