عودة يترأس قداس ذكرى رفع الأيقونات وانتصار الأرثوذكسية وينتقد اجتزاء آيات الإنجيل في وسائل التواصل: الاستقامة في الرأي والسلوك مطلوبة بخاصة ممن يتولى مسؤولية عامة

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "وصلنا إلى نهاية الأسبوع الأول من الصوم الكبير المقدس، الذي تتوجه الكنيسة، في الأحد الأول، بذكرى رفع الأيقونات المقدسة وانتصار الأرثوذكسية، أي الإيمان القويم.اليوم، نستذكر حدثا هاما من تاريخ كنيستنا، أي دحر هرطقة محاربة الأيقونات الشريفة. لقد ثبتت الكنيسة في مجمع القسطنطينية المنعقد عام842، عيد انتصار الأرثوذكسية أي استقامة الرأي، بعد نضال دام أكثر من قرن، ضد جماعة سببت المعاناة للمؤمنين. وكان عقد قبله، في العام 787 في مدينة نيقيا، المجمع المسكوني السابع الذي أدان تلك الهرطقة وأعاد إكرام الأيقونات ورفعها".
أضاف: "جماعة الهراطقة تلك لم ترفض فقط الأيقونات التي تشكل نافذة يمر من خلالها شعاع نور يضيء ظلمة النفس البشرية، بل رفضت أيضا التعليم القويم عن المسيح كإله تام وإنسان تام. رفض إكرام الأيقونات يعني إنكار تجسد ابن الله الذي يشكل عقيدة أساسية في إيماننا. وقد تسببت هذه الهرطقة وغيرها، منذ أيام الرسل القديسين، بإراقة دماء زكية، إذ استشهد قديسون ومعترفون كثر دفاعا عن إيمانهم، في مواجهة التعاليم الخاطئة والمنحرفة التي حاولت تسميم جسد الكنيسة. لم تضع الكنيسة هذا العيد لأسباب تاريخية فقط، ولم يثبته الآباء القديسون في الأحد الأول من الصوم إعتباطيا، بل لأن انتصار الإيمان المستقيم في نفس كل منا هو الهدف الأساسي للصوم، أي الإنتصار على الزيف والهرطقة وخدع الشيطان، والإيمان بيسوع المسيح ابن الله القائم من بين الأموات".
وتابع: "أحد العناوين الأساسية لاستقامة نفوسنا وحياتنا أن نسأل ذواتنا عمن هو المسيح بالنسبة إلينا، وكيف نعبده؟ هذا السؤال طرحه المسيح على تلاميذه قائلا: «وأنتم، من تقولون إني أنا؟» (مت 16: 15)، وقد بنى الرب كنيسته على صخرة إيمان بطرس القائل: «أنت هو المسيح ابن الله الحي!» (16: 18). هذه الإجابة، إذا كانت إجابتنا، نكون صخورا إيمانية، كنائس حية لا تقوى عليها أبواب الجحيم. هذا هو الإعتراف الذي سمعناه اليوم على لسان نثنائيل: «يا معلم، أنت ابن الله»، وما علمتنا كنيستنا أن نتلوه في صلاة يسوع قائلين: «ربي يسوع المسيح، ابن الله الحي، إرحمني أنا عبدك الخاطئ». الأرثوذكسية، أو استقامة الرأي، ليست ما نشاهده في أيامنا على وسائل التواصل الإجتماعي من أحاديث لأشخاص ينطلقون من معرفة سطحية بسيطة، ويهرطقون كل آخر مختلف معهم في الرأي. هؤلاء لا يتحدثون باسم الكنيسة، بل يسعون إلى مجد شخصي، مستخدمين الكنيسة وتعاليمها التي يجتزئونها للوصول إلى مبتغاهم. هذا ما يفعله أيضا بعض المسيحيين وغير المسيحيين ممن يستخدمون آيات الإنجيل بغير وجهها الصحيح، فيستشهدون بآيات مجتزأة أو محرفة تناسب نواياهم ومصالحهم لكنها تشوه المعنى الحقيقي. الأرثوذكسية ليست حقدا تجاه أحد، ولا تكبرا على أحد، بل هي إيمان بالبشارة التي نقلها لنا الرسل القديسون الذين عاينوا الرب يسوع وسمعوه وعاشوا معه ثم كتبوا لنا ما سمعوا ورأوا. الأرثوذكسية تمسك بما تسلمناه من الرب ورسله وقديسيه، وعمل محبة تطبيقي لهذا التسليم، نقوم به تجاه الآخر، كائنا من كان، حتى نصل إلى القيامة الحقيقية المنشودة، هدف هذا الصوم الكبير المقدس. لذلك، من ينعت أحدا بالهرطقة يضع نفسه مكان الكنيسة وآبائها، مدفوعا بداء الكبرياء الذي أخرج آدم من الفردوس ساقطا وخازيا".
وقال: "الأرثوذكسية التي نعيد لها اليوم هي أن نتبع تعاليم المسيح دون تحريف، وأن نتوب عن سقطاتنا، وأن نسعى، بجهاد وصلاة وتواضع ومحبة، إلى المثال الذي خسره آدم ، فنصبح أيقونات حية تنقل صورة المسيح إلى الجميع: الجائع والمريض والمسجون والوحيد والمظلوم والمعنف... إستقامة الرأي ليست تغنيا بالعقائد والتعاليم الآبائية بل هي تثمير حي لها، وهذا لا يحدث بمعزل عن الآخر الذي نصل به ومعه إلى الملك السرمدي. طبعا التمييز هو من الصفات الأساسية عند المؤمن المستقيم الرأي، لذا عليه أن يعي ألا أحد يجبره على اعتناق ما لا يرغب فيه. المؤمن الحق لا يتعدى على الآخرين بحجة أن لديه الإيمان الحق، لأنه بذلك يجعلهم ينفرون من الحق، أي من المسيح نفسه. المؤمن يحب الجميع، ولا يشعر بالخوف أو الخطر على إيمانه إذا كان ثابتا، لأن من يخاف يكون إيمانه مؤسسا على الرمل. لذلك علينا أن نسعى إلى استقامة الرأي في كل جوانب حياتنا، وهذه الاستقامة لا تتم إلا عبر المحبة الحقيقية التي دعانا إليها سيدنا وربنا يسوع المسيح ابن الله الحي".
أضاف: "هذه الإستقامة في الرأي والسلوك ليست من صفات المؤمن وحده بل مطلوب وجودها في كل إنسان ذي عقل واع وقلب رحوم. وهي مطلوبة بشكل خاص ممن يتولى مسؤولية عامة، لأن واجبه الإنفتاح على الجميع ومحبتهم وخدمتهم وتقديم الأفضل لهم، بما يرضي الرب والضمير. قد يتساءل البعض أين هو المسيح الرب في أيامنا؟ نجيب بما أجاب فيلبس نثنائيل: تعال وانظره في كل إنسان مؤمن ينعكس إيمانه في أعماله محبة ورحمة وخدمة وتضحية. هذا ما نتوقعه من كل مسؤول نذر نفسه لخدمة بلده وشعبه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: «هل أنت صائم؟ أعطني البرهان بأعمالك: لا تصوم فمك فقط ولكن صوم يديك عن الأخذ والجشع وأعمال الشر، صوم رجليك عن الجري وراء الذنوب والمعاصي، صوم عينيك عن السرور برؤية ما هو شرير، وأذنيك عن كلام الشر والنميمة، صوم فمك عن كلمات الكراهية والنقد والظلم. جميل جدا أن تحرم نفسك من أكل لحوم الطيور والحيوانات، لكن الويل لمن يستمر بأكل لحم إخوته». إن لقاء الرب ليس بالأمر المستحيل لكن المشكلة والحل في حرية الإنسان الممنوحة له من الله الذي لم يشأ، عند خلقه الإنسان، أن يلغي حريته في اتخاذ قراراته، حتى تلك المتعلقة بعلاقته مع خالقه. لذا نجد من لا يهتم بخلاصه، ومن يبحث حقا عن الله ويسعى جاهدا للقياه، بملء إرادته، فيكشف له الله ذاته، ويفتح الباب الذي يقرعه، ويجعله من مختاريه كما حصل مع زكا العشار، ومع الإبن الضال، ومع كل من يبادر إلى طلب الله. يقول لنا الرب يسوع: «كل من يسأل يأخذ ومن يطلب يجد ومن يقرع يفتح له» (متى 7: 8).
وختم: " هذا الأحد هو المحطة الأولى في رحلتنا نحو القيامة التي تشكل أساس إيماننا. فلنجاهد باستقامة لكي نصل إلى فرح الفصح المقدس".