الرياض تغيّر وجه الشرق الأوسط... وترامب عائد إليها لا قائداً بل مُراقباً
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في لحظةٍ سياسيّة مفصلية، يعود دونالد ترامب إلى السعودية، لكنّه لا يعود إليها من موقع الموجّه أو "صاحب اليد العليا"، بل كمن يراقب — وربما يعترف — بتحوّلات عميقة في المشهد الإقليمي لم تعد فيها واشنطن المقرّر الوحيد.
الرياض تغيّرت. لم تعد تلك العاصمة التي تفتح أبوابها لأي زائر يحمل "ختم البيت الأبيض". تغيّرت اللغة، تغيّرت الأولويات، والأهم: تغيّر ميزان القوى. فقد تحوّلت المملكة من شريك يتلقى إلى شريك يفاوض ويضع الشروط... ويقول "لا".
من ساحة انتظار واشنطن إلى مسرح صناعة القرار
زيارة ترامب، على ما تحمل من دلالات شعبية في الداخل الأميركي، تشكّل لحظة اختبار للرئيس العائد سياسياً من المنفى. لكن السعودية الجديدة لن تمنحه صفقات مجانية. فهذه دولة أعادت رسم تحالفاتها شرقاً، دخلت في تفاهم مع طهران برعاية صينية، وتواجه الضغوط الأميركية بابتسامة دبلوماسية وقرار سيادي ثابت.
من أوكرانيا إلى طهران، ومن بكين إلى تل أبيب، أثبتت الرياض أنّ زمن "الاصطفاف الأعمى" انتهى. فلم تستجب للابتزاز في ملف النفط، ولم تندفع في معسكر الحرب الأوكرانية، ورفضت أن تكون أداة تطبيع مجاني دون حلٍّ عادل للقضية الفلسطينية.
رسائل السعودية هذه ليست فقط إلى واشنطن. هي أيضاً إلى العواصم العربية المترددة، وخصوصاً بيروت التي تنتظر "اللحظة الدولية" لحلّ أزماتها، بينما تتجاهل أنّ القرار في الشرق الأوسط بات يُصاغ في غرف الرياض، لا في ممرات واشنطن أو دهاليز باريس.
ما فعلته السعودية في سنوات معدودة هو ما لم تفعله أنظمة عربية في عقود: انتقلت من التبعية إلى المبادرة، من رد الفعل إلى صوغ السياسات. ولعلّ لبنان، البلد العالق في جغرافيا الانقسام وتاريخ التبعية، بحاجة أن يعيد النظر: ليس في ولاءاته فقط، بل في مفهوم السيادة نفسه.
حين يطأ ترامب أرض المملكة هذا الأسبوع، سيكون ضيفاً على سياسة خارجية تختلف جذرياً عن تلك التي صافحها في زيارته الأولى. سيُجالس ولي العهد الذي لم يعد يفاوض فقط على أمن الخليج، بل على معادلة الطاقة العالمية، واستقرار أسعار النفط، والأهم: مستقبل التوازن الإقليمي بين واشنطن وبكين وموسكو.
هو ضيف على عقل استراتيجي جديد في الرياض، يرى في إيران منافساً يجب محاورته، وفي روسيا شريكاً يجب احترامه، وفي الصين جسراً لا يمكن تجاوزه، وفي فلسطين قضية لا تُشطب بـ"تغريدة تطبيع".
في زمن الفوضى الإقليمية، لا يمكن إلا أن نقرأ ما تفعله السعودية كإعادة رسم للخريطة. هي لا تملأ فراغ القوة الأميركية فحسب، بل تطرح نموذجاً جديداً: دولة عربية مستقلة، وازنة، لا تعيش على فتات التحالفات، بل تصنع موقعها بنديّة.
فهل ننتظر من يُملينا شروط التسوية في لبنان؟ أم نحذو خطى من قرر أن لا وقت للانتظار؟
في الرياض تُكتب معادلة جديدة.