حلقة رقم 2 كتاب "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأمريكية الخارجية"
بقلم د مصطفى علوش خاص مراسل نيوز
"وأعد أضلاعي، فيهرب من يدي بردى وتتركني ضفاف النيل مبتعدة
وأبحث عن حدود أصابعي، فأرى العواصم كلها زبدا"
محمود درويش
عندما سئل هاري ترومن عن سبب مبادرته لدعم قرار التقسيم ومن بعدها إعلان قيام دولة إسرائيل أجاب "هناك العديد من الناخبين اليهود في أمريكا، وهم منظمون، ولا علم لي بوجود عرب لهم أي تأثير على الانتخابات". لكن فوق ذلك، فقد كان ترومن أيضًا من المقربين إلى الصهيونية الإنجيلية. في تلك الأيام، لم يكن لللوبي اليهودي أي تأثير يذكر في السياسة الأمريكية، حسبها ترومن بعدد الأصوات. الصوت العربي اليوم، ومع تضاعف عدد العرب في أمريكا، ما زال غير منظم وغير ذي فاعلية.
في بحث رائد عن مجموعة الضغط الداعمة لإسرائيل في أمريكا نشر كتاب بعنوان "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الأمريكية الخارجية" لأستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو "جون ميرشماير" و"ستيفن والت" استاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، شرحا فيه كيفية تأثير هذه المجموعات النافذة على سياسات الولايات المتحدة بخصوص القضايا الدولية، وبالخصوص قضية فلسطين. يصف الكتاب اللوبي بأنه تحالف واسع بين الأفراد والمنظمات التي تعمل لتوجيه السياسة الأمريكية الخارجية إلى تأييد غير مشروط لإسرائيل. يركز الكتاب بشكل رئيسي على تأثير اللوبي على السياسة الأمريكية الخارجية بالرغم من تأثيرها السلبي على مصالح أمريكا. يقول الكاتبان أن تأثير اللوبي كان ضارًا على المدى الطويل حتى لإسرائيل من دون قصد، لأنه سيدخلها في صراع مستمر مع محيطها، طالما لم يكن هناك حل منطقي للفلسطينيين.
يعتبر الكاتبان أنه بالرغم من أنه لا يمكن تحديد حدود اللوبي الإسرائيلي بشكل واضح، إلا أن له نواة تتكون من منظمات تهدف إلى تشجيع الحكومة الأمريكية والرأي العام الأمريكي على تزويد إسرائيل بالمساعدات المادية ودعم سياسات حكومتها، وكذلك دعم الشخصيات الأمريكية المؤثرة التي تتخذ من هذه الأهداف أولويات لها. ويشيران إلى أنه ليس كل أمريكي لديه مواقف محابية لإسرائيل هو جزء من اللوبي، وأن هناك الكثير من اليهود الأمريكيين لا ينتمون إلى اللوبي اليهودي، بالرغم من أن الجزء الأكبر من اللوبي يتألف منهم، بالإضافة إلى المسيحيين الصهيونيين. يشير الكتاب إلى أن مجموعات مهمة في اللوبي انجرفت إلى اليمين وتداخلت مع المحافظين الجدد.
كُلفت مجلة "ذا اتلانتك" الشهرية في إصدار الكتاب، لكنها رفضت فيما بعد لأسباب لم توضحها. وجهت انتقادات كثيرة إلى الكاتبان من قبل وسائل إعلام محسوبة على التيار الداعم لإسرائيل.
بدأ الكتاب كدراسة أكاديمية على الموقع الإلكتروني لكلية كندي للعلاقات الدولية في جامعة هارفرد في عام 2006، بعد أن رفضت ذا اتلانتك نشر الكتاب. ثم نشرت مجلة "لندن ريفيو أُف بوكس" نسخة مختصرة من الدراسة تحت عنوان اللوبي الإسرائيلي. ثم صدرت نسخة ثالثة ومنقحة لتتصدى لبعض الانتقادات في خريف 2006. وفي نشر الكتاب الذي يتضمن تعريفًا موسعًا عن اللوبي ويرد على الانتقادات التي نشرت بخصوص الدراسة الأولى، كما جرى تحديث لتحليلات الكتاب مع تقديم اقتراحات للإدارة الأمريكية بأنه عليها أن تقدم مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط على مصالح إسرائيل.
تقول مقدمة الكتاب بأنه "نبغي أن تحظى المصلحة القومية الأمريكية بالصدارة المطلقة في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية. إلا انه وعلى امتداد الفترة الزمنية الماضية، ولا سيما منذ حرب حزيران 1967 ظلت علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل كحجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية. وأدت المزاوجة بين سياسة الدعم المتواصل وغير المحدود من أمريكا لإسرائيل، وبين السعي الافتراضي لنشر الديمقراطية في أرجاء المنطقة، إلى إلهاب مشاعر السخط في أوساط الرأي العام العربي والإسلامي، وبالتالي هددت أمن الولايات المتحدة"
وحسب تحليل ميرشايمر ووالت فإنه لم تتمكن أي مجموعة ضغط أمريكية في التاريخ من تحويل السياسة الأمريكية الخارجية عن المصالح الأمريكية القومية كما تقوم به المجموعات المؤيدة لإسرائيل. قوتها أيضًا بأنها تقوم بإقناع الأمريكيين بأن مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل متطابقة في الأساس. ويقولان أن اللوبي لا يختلف في عملياتهم الأساسية عن الجماعات ذات المصالح مثل اللوبي الزراعي وعمال الصلب والنسيج، ولوبي الأسلحة الأمريكي اللوبيات الإثنية الأخرى. لكن ما يميز اللوبي الإسرائيلي عنها هو فعاليته الغير عادية. ويرى ميرشايمر ووالت أن التحالف الفضفاض الذي يشكل اللوبي يملك ورقة ضغط قوية على السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى قدرته على التأكيد على أن منظور اللوبي حول إسرائيل ينعكس في وسائل الإعلام الرئيسية في نطاق واسع، وبالتالي يصنع الرأي العام المؤيد لإسرائيل. يقول الكتاب أن اللوبي الإسرائيلي لديه سلطة تامة على الكونغرس الأمريكي بسبب قدرته على مكافأة المشرعين وأعضاء الكونغرس المرشحين الذين يدعمون إسرائيل، ومعاقبة أولئك الذين يتحدون توجهات مجموعة الضغط.
في الكتاب أيضأ، استنكر ميرشايمر ووالت ما يسميانه سوء استخدام تهمة معاداة السامية وقالا أن الجماعات الموالية لإسرائيل تضع أهمية كبيرة على السيطرة على النقاش في الأوساط الأكاديمية الأمريكية، لكنهم في الوقت نفسه تعمل على نجاح اللوبي في حملته للقضاء على أي نقد لإسرائيل في الجامعات الأمريكية، مستخدمين شعار معاداة السامية كورقة ابتزاز دائمة في وجه حتى من يتساءلون عن أحقية السياسات الإسرائيلية، أو السؤال عن سبب دعم أمريك غير المنطقي لإسرائيل، على الرغم من مخالفتها الصريحة لكل ما يدعيه بلدهم بخصوص حقوق الإنسان ورفض مبدأ الفصل العنصري. ويختم بأنه نجح اللوبي في تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، على أساس أن أي عدو لإسرائيل سيتم إضعافه أو يطاح به، ومن بعدها ستسيطر إسرائيل على كل فلسطين، ثم تقوم أمريكا بأغلب العمل المتمثل في القتال والموت وإعادة البناء والدفع لتعويض ما خربته السياسات الإسرائيلية الحربية.
يصف البحث الحوادث والأرقام والأسماء المتعلقة بالنشاط اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وما يضم من أفراد ومنظمات ومؤسسات تعمل لتوجيه السياسة الخارجية الأمريكية لمصلحة إسرائيل. من المنظمات التي يركز عليها اللجنة الأمريكية - الإسرائيلية للشؤون العامة ومؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية والمؤتمر اليهودي العالمي ومنتدى السياسة الإسرائيلية. كما يشير الكتاب إلى طرق عمل هذا اللوبي في الضغط على الكونغرس الأمريكي وعلى السلطة التنفيذية، والحيلولة دون تمكين التعليقات التي تنتقدها من اجتذاب أي آذان صاغية في الساحة السياسية. كما أن أحد الأسلحة الأقوى التي يستعملها اللوبي هي تهمة معاداة السامية التي يوصم بها كل من يتعرض لتصرفاتهم، وحتى ولو بشكل منطقي.
بالنتيجة، دفع الكاتبان ثمن تصديهما للوقائع في وجه مجموعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، فتخلت جامعتا هارفارد وشيكاغو عن الأستاذين وقامت إدارتا الجامعتين بإزالة شعاريهما من على غلاف الدراسة الأساسية.
في الختام، صحيح أن الصهيونية متغلغلة بعمق في المجتمع الأمريكي، لكن هذا التأثير موجود بشكل أساسي في الفئات العمرية الكبيرة، وبالأخص في أتباع الكنائس الإنجيلية الصهيوينة، لكن هناك حراك قائم الآن أساسه الشبان الجامعيين، ومعهم العديد من اليهود الرافضين للصهيوينة، ما يهم هو كيفية تأطير هذا الحراك المستجد، وجعله مؤسسًا ومدعومًا بالتعاون مع يهود يعادون الصهيونية والتركيز على منطق أن إسرائيل دولة فصل عنصري وأن الحقوق ذاتها يجب أن تمنح لسكان فلسطين. هذا المنطق هو الوحيد القادر على هزيمة فكرة الدولة اليهودية، وليس الشعارات الفارغة والانتصارات الوهمية. صحيح أن ما حدث في غزة أعاد فلسطين إلى الواجهة، لكن الأهم هو كيفية إدارة هذه الصحوة من دون الدخول في منطق التطرف والمزايدات ذات الطابع الديني.