حين يطعن “أشرف الناس”: مأزق العقيدة قبل الأمن
بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

محمد هادي صالح، منشد ديني، شقيق شهيد، نجل أحد عناصر “قوة الرضوان”، وذو حضور معروف في بيئته. ظاهريًا، يبدو تجسيدًا لما تسميه سردية الحزب بـ”البيئة الحاضنة”. لكنه اليوم، موقوف بتهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي. المفاجأة لا تتعلق به وحده، بل بما يُمثّله.
هو ليس استثناءً. تتكشف يومًا بعد يوم حالات مشابهة: رجال ونساء من داخل الصفوف الحزبية، بعضهم في مواقع تنظيمية، وآخرون يختبئون خلف أقنعة الولاء. يرد ذكر إحدى النساء في الهيئات النسائية، ويُشار إلى آخرين يكتبون التقارير من قلب التنظيم، لا من خارجه.
غير أن السؤال الأهم ليس: “كيف خان؟”، بل: “كيف وُجدت بيئة سمحت له بالخيانة؟”. بيئة مغلقة، مصفّحة بالوهم، تخلط بين التفوّق السياسي والطهارة الأخلاقية، وتُشيّد سورًا وهميًّا حول مفهوم “أشرف الناس”، وكأن الولاء يمنح الحصانة، والانتماء يلغي المساءلة.
في السنوات الماضية، تطوّر جهاز أمن الحزب ليصبح شرطة فكر. يلاحق الأصوات المستقلة، يُهدّد الناشطين، يراقب منشورات “فيسبوك”، ويُطلق جيوشًا إلكترونية على “إكس” لقمع كل رأي مخالف. لكنه – في الوقت ذاته – لم ينتبه إلى الطعنات القادمة من خاصرته. محمد هادي صالح، الذي صدّق الجميع أنّه “مؤمن”، كان يرسل أسماء القادة إلى الموساد. الطعنة لم تأتِ من الخارج، بل من الداخل، من قلب النشيد.
المعارضون، رغم كل ما وُجّه إليهم من تهم، لم يُكتشف فيهم عميلٌ واحد. أما العملاء، فجاؤوا من بين الصفوف الأكثر قربًا والتصاقًا. الخلل، إذًا، ليس في الخارج، بل في الداخل. في العقيدة، قبل أن يكون في الأمن.
حين تتحوّل المقاومة إلى سلطة، والسلطة إلى عبادة، والنقد إلى خيانة، يُصبح المناخ مثاليًا لتنامي الخيانة خلف جدران الولاء. الاعتقاد بأنّ “البيئة” معصومة، وأنّ الانتماء كافٍ للثقة، يُحوّل الأشخاص إلى ثغرات بشرية.
لم يحمِ الحزب نفسه بالمحاسبة، بل أغلق بيئته في قوقعة. وبدلاً من توجيه العداء نحو العدو، وُجّهت المعركة نحو الداخل: نحو الأصوات الناقدة، نحو كل من تجرّأ على الاختلاف.
ما يتكشّف اليوم لا يُختصر بثغرة أمنية، بل هو نتيجة خلل عميق في البنية العقائدية. في خطاب التقديس، وفي الإيمان بأنّ هذه البيئة تملك الحقيقة المطلقة. والسؤال القاسي: كم من محمد هادي صالح ما زال يتخفّى خلف النشيد؟ كم من عميل ينعم بالثقة لمجرّد أنه من “العائلة الصحيحة”؟ وكم من خائن تُطمئنه بطاقة “الولاء” وتُمرّره على الحواجز السياسية والأمنية؟
العدوّ لم يُخترق “الحزب” من خارجه، بل دخل من باب فُتح له من الداخل، حين تمّ تهميش المحاسبة، وتجريم المعارضة، واستبدال المناعة الداخلية بالولاء الأعمى.
اليوم، لا تكفي المحاكمات ولا بيانات الإدانة. المطلوب أعمق: مراجعة شاملة للخطاب، وللمفاهيم، وللثقافة التنظيمية. فالأمن لا يُبنى بالشعارات، بل بالمحاسبة. والطهارة لا تُفترض، بل تُثبت. وأخطر ما تواجهه أي مقاومة، هو حين تتحوّل بيئتها إلى قلعة مغلقة، لا تُسائل نفسها، ولا ترى الخطر حين يخرج من بين جدرانها