عبد القادر الجزائري أنقذ دمشق.. فمن يُنقذها اليوم؟
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في مايو 1860، كانت دمشق على موعدٍ مع الدم. اشتعلت نار الفتنة في جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين، وتدحرجت كرة اللهب نحو العاصمة الشامية. المساجد صمتت، والكنائس احترقت، والعيون تاهت في دُخان الطائفية. كان الزمن هشًّا، والناس بين قاتل وخائف ومنكفئ.
لكن من بين الركام، نهض رجل اسمه عبد القادر الجزائري. لا درزي، ولا ماروني، ولا فاطمي. بل رجل مسلم سنّي، نازح جزائري، حمل سيفه لا ليقاتل، بل ليحمي. فتح بيته للمسيحيين، حمى الشيوخ والنساء والأطفال، ووقف في وجه القتلة، حتى خافه القتلة أنفسهم.
في تلك اللحظة، لم يكن عبد القادر يُمثل طائفة، بل الضمير. لم يُنقذ المسيحيين فحسب، بل أنقذ وجه دمشق من العار.
فمن يُنقذها اليوم؟
النار نفسها.. ولكن دون وجوه النُبلاء
اليوم، في مايو 2025، تعود الفتنة إلى بلاد الشام، هذه المرة بين الدروز وسلطات دمشق ومن يلوذ بها. لا جديد سوى غياب عبد القادر. تتكرر الوجوه، تُعاد الشتائم، تُنشر الفيديوهات، ويُصفّق بعض الجمهور للدماء كما يُصفّقون للمباراة.
لكن الخطر لا يكمن في الرصاص، بل في الصمت. الصمت الأخلاقي. الصمت الذي يجعلنا نراقب المجازر كما نُراقب الطقس.
أين الزعامات؟ أين المثقفون؟ أين من يكتبون للضمير لا للطائفة؟
التاريخ لا يرحم من ينساه
ليست هذه المرة الأولى التي تشتعل فيها الشام. ولن تكون الأخيرة إن بقي التاريخ مجرد فُسيفساء نُزيِّن بها القصور.
لقد كتب المؤرخ الحمداني عن زمنٍ عاش فيه بنو أمية في كنف الدولة الفاطمية الشيعية دون أن يُكدّر لهم شِرب. ونقل القلقشندي عن الفاطميين أنهم أكرموا أهل السنة في بلاطهم رغم اختلاف العقيدة.
هل نحن أعقل من الفاطميين؟ أشجع من عبد القادر؟ أكثر علمًا من المماليك؟ إذًا لماذا نُعيد أسوأ ما في الماضي ونترك أجمله؟
هذه ليست فتنة درزية ولا سنّية.. إنها فتنة ضمير
من يُحرّض اليوم على الفتنة لا يمثل طائفة، بل يُمثّل فشلًا أخلاقيًا جماعيًا. ومن يصمت عن الدم، لأنه لا يشبهه، لا يختلف عن القاتل.
يا سادة القرار، ويا من تكتبون باسم "الوطن"، لبنان يرى. وسوريا تنزف. وفلسطين تتفرّج على المرآة.
الدم الذي يُراق في السويداء ليس دمًا درزيًا، بل دم عربي، دم الإنسان. ومن لا يرى ذلك، لا يستحق أن يتكلم باسم أحد.
كلمة أخيرة
ليت فينا اليوم عبد القادر جديد، لا يبحث عن زعامة، بل عن نجاة لبلدٍ لم يعُد يحتمل مزيدًا من الانكسار.
ويا عرب، لا تُجاملوا الدم. لا تُبرّروا الحقد. ولا تقولوا "ليست فتنتي". الفتنة التي لا تطفئها ستأكلك. كما أكلت من قبلكم.
فلنكتب، ولنصرخ، ولنذكّر. لأن التاريخ لا يصفح للذين كانوا يعرفون وسكتوا.