طرابلس تحت التشويه المنهجي: كيف صُنعت صورة مدينة لم ترتكب ذنبًا؟

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

طرابلس تحت التشويه المنهجي: كيف صُنعت صورة مدينة لم ترتكب ذنبًا؟

ليس جديدًا على طرابلس أن تُدان بلا محاكمة. الجديد فقط هو الذريعة.

مرّة باسم الأمن، مرّة باسم الفقر، مرّة باسم التطرّف، واليوم باسم فيديو مدرسي.

السيناريو واحد: حدث صغير، تضخيم هستيري، ثم اتهام مدينة بكاملها.

ما جرى مؤخرًا لم يكن نقاشًا حول محتوى تربوي، بل حلقة جديدة في مسلسل تشويه ممنهج لمدينة يُراد لها أن تبقى متّهمة كي لا يُسأل المتّهم الحقيقي: الدولة.

طرابلس، التي يحلو للبعض تقديمها كـ”مشكلة”، هي في الواقع أكثر مدن لبنان ممارسة فعلية للعيش المشترك.

في طرابلس، المسلم يضع ابنه في مدرسة مسيحية بلا عقدة، ولا يحتاج إلى بيانات ولا إلى مهرجانات “وحدة وطنية” ليعيش مع الآخر. في طرابلس، التنوّع ليس شعارًا يُرفع عند الأزمات، بل حياة يومية هادئة لا تلتقطها الكاميرات.

ومع ذلك، كلما فشل النظام، تُستدعى طرابلس إلى قفص الاتهام.

كيف يُشوَّه الواقع؟

يُقتطع مشهد من سياقه.

يُجرَّد من واقعه الاجتماعي.

يُحمَّل ما لا يحتمل.

ثم يُقال للبنانيين وللعالم: “انظروا… هذه هي طرابلس”.

هذا ليس سوء فهم. هذا تزوير سياسي للواقع.

الحقيقة البسيطة التي يتجاهلونها عمدًا:

المعتقد حق شرعي لأي طائفة وأي عائلة.

تعليم الأطفال على قناعات أهلهم لا يعني التحريض، ولا يلغي احترام الآخر، ولا يهدد التعايش. التهديد الحقيقي هو تحويل القناعات إلى تهمة، والاختلاف إلى جريمة.

المفارقة الفاضحة أن الدولة التي:

فشلت في ضبط السلاح،

فشلت في حماية العملة،

فشلت في توفير كهرباء وماء وكرامة،

تستعرض فجأة صرامتها الأخلاقية على مدرسة، وعلى مدينة، وعلى أطفال.

لماذا طرابلس دائمًا؟

لأن طرابلس بلا حماية سياسية حقيقية.

لأنها دفعت ثمن اعتدالها بدل أن تُكافأ عليه.

لأنها لم تتحول يومًا إلى كانتون، ولا إلى ميليشيا، ولا إلى ورقة ضغط.

فصار من السهل شيطنتها.

لكن الوقائع لا تُمحى:

طرابلس لم تكن يومًا بؤرة كراهية.

لم تكن مصنع فتنة.

لم تكن رافضة للآخر.

بل كانت دائمًا ضحية نظام يعيش على الانقسام، ويخاف من مجتمع يتعايش بلا وصاية.

الأخطر في كل ما يحدث هو تسييس التعليم. حين تُترك المدارس بلا حماية واضحة من الاستثمار السياسي والإعلامي، تصبح أدوات لتصفية الحسابات. وحين يُستَخدم الأطفال كدليل اتهام، نكون قد دخلنا مرحلة انحدار أخلاقي خطير.

هذه ليست معركة فيديو.

هذه معركة سردية:

من يملك حق تعريف طرابلس؟

أهلها، أم منظومة اعتادت تشويه كل من يفضح فشلها؟

طرابلس لا تطلب شفقة، ولا دفاعًا عاطفيًا.

تطلب فقط العدل في الرواية.

فالمدينة التي عاشت التنوّع بصمت، لا تستحق أن تُجلد باسم التعايش.

والأخطر أن تشويه طرابلس ليس إساءة لمدينة واحدة، بل إنذار لكل لبنان:

اليوم طرابلس، وغدًا أي منطقة لا تشبه صورة النظام عن نفسه.

في بلد تُدار أزماته بالتشويه بدل الحل،

يصبح قول الحقيقة فعل مقاومة.

وطرابلس…

لم تكن يومًا مشكلة لبنان،

بل الدليل الحيّ على أن المشكلة في مكان آخر.