عن لعنة الربيع في لبنان

بقلم د مصطفى علوش

عن لعنة الربيع في لبنان

"لا بأس ببعض العبث في الربيع يسلي الملوك ويبهج الجميع

وليرحم الله المهرجين المفاخرين بأنهم رسموا المنظر البديع!"

ترجمة بتصرف لشعر أميلي ديكنسن

في رواية "عواصف في ذاكرة"، وهو لم ينشر بعد، كتبت "درب الآلام: كان الثالث عشر من نيسان 1975 يوم أحد، أي نهار عطلة. كان من المُفترض أن يكون ذاك اليوم مثل أي يوم من أيام بداية فصل الربيع. كنا جميعنا غافلين عن الآتي! كانت أسراب السنونو تجتاح السماء الزرقاء ورائحة زهر الليمون تتسلل بهدوء، لتلطف روائح المجارير التي فجّرها انسداد "غير متوقع" في مفصل ما من شبكة الصرف الصحي المتهالكة. حسبما أذكر، هطلت زخّات من المطر من بضع غيمات عابرة أتت لتودع موسم الشتاء. وعلى الرغم من أن مؤشرات التوتر كانت عالية إلى مستوى الخطر الداهم، لم يتوقع أحد كارثة بهذا الحجم.

الساعة الواحدة بعض الظهر، أصبح النبأ على كل لسان "الكتائب ارتكبت مجزرة بحق مجموعة من الفلسطينيين الأبرياء عند مرورهم في بوسطة عبر منطقة عين الرمانة ذات الأكثرية المسيحية". قيل أن المجزرة أتت ردًا عفويًا على مقتل أحد مرافقي رئيس حزب الكتائب صباح ذاك اليوم أمام كنيسة. خرجت الأمور عن قدرة الساسة التقليديين على معالجة الأمور على الطريقة اللبنانية المبنية على التسويات. انطلقت أعمال عنف متفرقة حول مخيمي "تل الزعتر" و"جسر الباشا"، كما حصلت اشتباكات بين الشياح وعين الرمانة. قُدر عدد القتلى ببضعة مئات في الأيام القليلة التي تلت المجزرة... في طرابلس، بدأ مهرجان حرق الدواليب وقطع الطرقات. كالعادة، كانت باب التبانة مركز الحراك ومنطلقه. في اليوم التالي، أُقفلت المصالح والمدارس وانطلقت تظاهرة كبرى باتجاه ساحة التل. عندما وصلت مظاهرة طرابلس إلى محيط كنيسة مدرس الطليان، سُمع إطلاق رصاص مجهول المصدر! ساد الهرج والمرج، وتفرّق المشاركون مذعورين، وامتلأت الطريق بالأحذية التي تفلتت من أقدام أصحابها بحكم فرارهم على عجل. عاد بعضهم للبحث عنها لاحقًا، فيما خجل آخرون وتركوها هناك "خوفًا من البهدلة"...

 في الثامن عشر من نيسان، ابتدأ عهد القنص العشوائي بين المناطق. شلّت الحركة في الشوارع، وسيطر الذعر على المارة، بعد سقوط العشرات من عابري السبيل ضحايا لرصاص مجهول الهوية. 

"شريف الأخوي"، كان مذيعًا في إذاعة لبنان، وأصبح منذ ذلك اليوم المرشد الوحيد للمواطنين لكي يتجنبوا رصاص القناصة، الذين انتشروا في أوكار في الأبنية المشرفة على المناطق "المعادية". لكن، وعلى الرغم من كل إرشادات الأخوي ونداءاته "لإحياء ضمائر القناصة" لكي يتوقفوا عن: "قتل الأبرياء فبينهم قد يكون أخ وأب وربما يكون قريبًا للقناص نفسه"، فقد كانت لائحة ضحاياهم تكبر بسرعة هائلة. كثيرًا ما سقط مسيحييون برصاص انطلق من مناطق مسيحية، كما سقط مسلمون برصاص من مناطق إسلامية.

في بعض الأحيان، كان يتكوّم الأب فوق إبنه الجريح وهو يحاول سحبه من مرمى القناص، في أحيان أخرى كانت الضحايا تنزف وتستغيث، دون أن يجروء أحد على الإقتراب منها، بعد أن تبين أن بعض القناصة المحترفين كانوا يتقصدون تحويل الطريدة الأولى إلى فخ بإصابتها برصاصة غير قاتلة، ليستدرجوا بها أصحاب النخوة من المسعفين.

لحسن الحظ، لم تكن مناظير القنص الليلية متوفرة في تلك الأيام، فكانت الجثث تُسحب تحت جنح الظلام، وأحيانًا كان يُنقذ بعض الجرحى على آخر نفس...

على الرغم من كل ذلك، فقد بدا أن الانزلاق إلى المجهول كالقضاء والقدر. مشينا نحوه جميعنا دون مقاومة، مستسلمين إلى حتميته، واتهمنا من احتج أو مانع بشتى أنواع الصفات غير الحميدة، من متخاذل إلى جبان إلى عميل أو رأسمالي خائف على مصالحه..." انتهى الاقتباس.

بعد سنوات من الموت والدمار، اقتنع الراشدون اليوم منا بأن كل ما حصل من جنون، كان من الممكن تفاديه لو كنا يومها راشدين وفهمنا أنه لولا لم يكن هناك بوسطة تمر في عين الرمانة، لكان هناك سبب آخر لنبني عليه حفلة الجنون والتدمير الذاتي، وكأننا ننتقم من ذاتنا على إعجابنا بذواتنا وافتخارنا بأننا منارة الشرق وشعلة الفطنة والذكاء فيه. خلقنا أمراء الحرب بمراتب أنبياء وقديسين، ورمينا بابنائنا قرابين لمجدهم ولديمومتهم، واستمر الأمر حتى بعد نهاية أحد فصول الجنون. وأنكرنا على من لم يحمل السيف والموت للأعداء، حتى حق القيادة، لمجرد كونه يحمل الأمل والسعادة للجميع وشهادات الجامعات بدل الاستشهاد. 

اليوم نعيش مقدمة فصل جديد. سمعت بخوف عظيم كلام أحد الشبان الصريح أمام زعيم القوات اللبنانية بأنه يريد "الحرب الأهلية". وفي ظل غوغاء الحدث الجليل بجريمة اغتيال الشهيد المظلوم باسكال سليمان، لم يكن للحكيم قدرة على مواجهة الغضب الشعبوي بالحكمة، فقد تكون الحكمة في هذا الظرف سببًا لاغتيالها دوسًا تحت أقدام الهائجين! لكن الحكمة تقتضي، خاصة للراشدين، أن يستذكروا من خبرتهم وتجاربهم بأن الفخ جاهز للوقوع فيه، حتى لبعض ذوي الألباب، في لحظة غفلة طوفان الغضب.

هذا لا يعني أن الغضب ممنوع، وأن تراكم المظالم لا يستدعي الغضب، لكن الحكيم هو القادر على إدارة الغضب لعدم تحوله إلى تدمير ذاتي، وذلك بالوقوع في الفخ المنصوب أصلًا لاستدراج ردات فعل غاضبة. لكن، قد تكون الصدفة قد أعطت الفرصة للقبض على المنفذين، أو بعضهم، وهم في قبضة الجيش، ومن خلال هذا الواقع، على الحكماء إدارة الغضب ليصبح أداة للعدالة، بدل أن يتحول سببًا مستجدًا للانتحار الجماعي، كرهًا بالذات، ونحن نظن بأنها لتحقيق العدالة، كما قال المحتج أمام الحكيم "يا مرحبًا بالحرب الأهلية". والسؤال ضد من؟ وبأي طريقة؟ أنعود إلى الخطف على الهوية؟ وأي هوية؟ وكيف يمكن بعدها حصر الفعل ورده؟ 

الحل الآن هو بالتمسك بمراقبة التحقيق طالما أن الجناة المنفذين، ولأول مرة، في قبضة الأمنيين، وقد يكون من الممكن فهم تفاصيل الأمور. لكن الإشكال هو، حتى وإن كانت القضية محصورة بعصابة إجرامية، وهو أمر مستبعد بحكم تفاصيل الجريمة، فإن رد فعل عشوائي ضد اللاجئين السوريين سيحقق ما كانت أي مؤامرة تسعى إليه. أي فتح باب الفعل ورد الفعل على مصراعيه، ذهابًا وإيابًا. فكما أنه من الممكن الاستفراد والتنكيل بتجمعات سورية هنا وهناك، فإن الوضع ذاته قد يكون بالمقلوب في مناطق أخرى، فيدفع العزل ثمن الجريمة، لتتحول إلى كرات ثلج من الجرائم . ولنفترض أن مسألة تسلح اللاجئين السوريين حقيقة، ولا أستغربها، فإن أي عمل من قبلهم يصبح مسوغًا بالدفاع عن النفس، وبالتالي الدخول في دوامة الفعل ورد الفعل. وهكذا تتحقق أمنية الأسد المزمنة، منذ ما قبل الحرب الأهلية، بأن لبنان لا يمكن أن يصبح بلدًا من دون سلطة غاشمة تحكمه! وما سيحدث هو أن الخوف والموت المهيمن اليوم على مناطق يحكمها حزب الله، سيعم مناطق خارجة عن حكمه، ولكن بشكل عشوائي أعمى، فيخف الضغط الشعبي على نصر الله في مناطق حكمه.

بحكم ما فضحته ساحة الجريمة، وهو ليس محاولة تبرئة حزب الله من جرائم أخرى، فإن ما يرتكبه عادة الحزب يكون أكثر دقة وبدوافع مدروسة، وحسب علمي، فالحزب لا يسلم عملياته الدقيقة إلا لمن هم من الدائرة الداخلية. لكن المؤكد هو أن تعميم الفوضى على كل لبنان سيخدم قيادة الحزب كما أسلفت. أما إذا كانت القضية مدبرة من قبل ما تبقى من مخابرات الأسد، فالهدف أيضًا هنا هو لتعميم الفوضى والموت واستدراج ردات فعل ضد اللاجئين، تجعل منهم جميعهم موالين لبشار وتحت حمايته، وذلك ليس بالعودة إلى سورية، بل لخدمة توجيهات نظامه، وهي عادة حسب تاريخنا معه تخريبية الطابع.

لكن الأخطر بدرجات، وما هو جاهز للتفعيل، وهو أن تتحول القضية إلى مسالة سنة سوريين في مواجهة مسيحيين، فتتحرك حمية بعض الرؤوس الحامية السنية لتستثمر في القضية، وتعود حليمة لعادتها القديمة، فتتبدل الوجهات وتتغير الأولويات، وينسى الناس من فجر مسجدي السلام والتقوى، ومن اغتال رفيق الحريري، ويصبح المسلمون في كفة واحدة في مواجهة المسيحيين، فيدخل الحابل بالنابل. وهنا ليس عندي سيناريو تفصيلي بما قد يحدث، فالفوضى العدمية هي ما سيحكم الأمور، وأنا واثق أن من طالب بالحرب الأهلية في محضر الحكيم، هناك الكثير من أمثاله في طوائف أخرى، ذلك لمجرد أن الحرب والفوضى تعيد للتافه دور يفتقده في حال السلم، فيسود زمن الرويبضة، ويبرز أمراء حرب جدد، ويهاجر من بقي منه النوى... في الختام، سيحصل من يسعى لتقسيم البلد على مراده، فوق جثث الضحايا الذين يسمونهم شهداء، وعلى ركام الحارات. فيرفع أمراء الحرب راياتهم المظفرة فوقها ليقولوا لمن بقي، أن التضحيات لم تذهب سدى، فقد انتصرنا!  

هي حفلة جنون، يظن المهرجون فيها أنهم من يتحكمون بالمشاعر، لكنهم فقط أدوات تافهة للجنون كما قالت الشاعرة أميلي ديكنسن.