بين عبد الناصر ونعيم قاسم: شجاعة الاعتراف أم مراوغة الإنكار؟
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
تطفو على سطح المشهد اللبناني تساؤلات وجودية تصعب الإجابة عليها في ظل الأزمات المتراكمة: كيف يمكن ترجمة الأحداث الأخيرة في بلد يتأرجح بين إرث العقد السياسي القديم والضغوط لصوغ عقد جديد؟ ما هو دور القوى الإقليمية والدولية في هذا الإطار؟ وكيف يمكن للقيادة أن تواجه حقيقة الواقع المتدهور؟
في هذا السياق، يبرز سؤالٌ لا مفر منه: لماذا تأخر الأمين العام الجديد لـ"حزب الله"، نعيم قاسم، في الظهور بخطاب يواجه فيه الحقائق؟ ولماذا لم يستلهم جرأة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي واجه شعبه بشجاعة واعترف بـ"النكسة" بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967؟ بدلًا من ذلك، يواصل الموالون لـ"الحزب" وإيران وصف الأحداث بـ"النصر" أو "الصمود"، في محاولة لتغليف الهزيمة بروايات مثيرة للجدل.
هذه الديناميكية ليست غريبة على منطق الميليشيات والأنظمة المستبدة، حيث يُعاد تشكيل السرديات بما يخدم مشروعها السياسي والإيديولوجي. الخطير هنا أن الفرق بين الدول والتنظيمات لا يقتصر فقط على البنية المؤسسية أو التكاليف البشرية والاقتصادية للحروب، بل يمتد إلى العلاقة مع الزمن والتاريخ. الدول تخضع لمراجعات ذاتية وتعيد بناء نفسها، بينما تسعى التنظيمات لتجميل إخفاقاتها بسرديات شعبوية تُبقي قواعدها في حالة استنفار دائم.
لكن الأخطر هو القاسم المشترك بين الأنظمة الاستبدادية والتنظيمات المسلحة: عند الهزيمة أمام الخارج، يُعاد توجيه المعركة نحو الداخل. وعندما تُجرح هذه القوى من الخصوم البعيدين، يكون الانتقام غالبًا على حساب الجيران أو الشعوب التي تدّعي تمثيلها.
لبنان اليوم يحتاج إلى مواجهة شجاعة مع الذات، مواجهة لا تُختزل في إعادة تدوير سرديات قديمة أو التهرب من المسؤولية. على القوى السياسية والمجتمع المدني أن يدركوا أن إنكار الواقع لن يقود إلا إلى مزيد من الانهيار. فالاستمرار في الهروب من الحقائق يحول الأزمات المؤقتة إلى أزمات بنيوية، تجعل البلاد أسيرة لماضٍ يُعاد إنتاجه بطرق أكثر إيلامًا.
إن الجرأة في طرح الأسئلة الصعبة والاعتراف بالحقيقة، مهما كانت مؤلمة، هي الخطوة الأولى نحو الخروج من هذه الدوامة. السؤال الحقيقي الآن: هل يمتلك لبنان القدرة على انتزاع نفسه من قبضة الإنكار، أم أن مصيره سيظل رهينة مصالح ضيقة وأوهام انتصارات لم تحدث قط؟