زعيم البرلمان وصانع القيود: نبيه بري بين ضبط الحلفاء وترويض الخصوم
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في بلد اعتاد أن تُحسم موازين القوة فيه بالانفجارات السياسية أو العسكرية، يبرز اليوم رجل واحد يفرض قواعد لعبة جديدة من داخل المؤسسات: نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني منذ عام 1992، وزعيم “حركة أمل” التي تُشكّل مع “حزب الله” الركيزة الأهم في المعادلة الشيعية السياسية.
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، أجاد بري البقاء في قلب السلطة مهما تبدّلت الظروف. نجا من الحروب، تقلّبات التحالفات، وضغوط الخارج، بفضل مزيج من البراغماتية السياسية والقدرة على قراءة التوازنات الإقليمية. لكن بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 2023، ومع تراجع النفوذ الإيراني الممتد من العراق إلى بيروت، وجد بري نفسه أمام فرصة نادرة وخطرة في آن: أن يتحوّل من “وسيط التوافقات” إلى “صانع السقف” الذي يحدد مدى حركة الجميع، بما في ذلك حليفه التاريخي “حزب الله”.
من وسيط إلى محدّد للسقف
في 5 أغسطس/آب 2025، كلّفت الحكومة اللبنانية الجيش بوضع خطة لحصر السلاح قبل نهاية العام، في خطوة هزّت المشهد الداخلي. “حزب الله” اعترض علنًا، لكن ردّه كان مضبوطًا، بعيدًا عن التصعيد الذي اعتاده اللبنانيون في مثل هذه القضايا. خلف الكواليس، كان بري يوازن بين تهدئة الشارع الشيعي، واستيعاب الرسائل الإقليمية والدولية التي لم يعد ممكن تجاهلها.
مقارنةً بما قبل 2019، حين كان الحزب يفرض إيقاعه على القرارات الأمنية والعسكرية، بات واضحًا أن “حركة أمل” —بإدارة بري— أصبحت البوابة الإلزامية لأي تصعيد أو تهدئة، وهو ما يصفه دبلوماسي عربي في بيروت بـ”السقف الداخلي الذي يسبق السقف الوطني”.
التموضع الإقليمي: قراءة في رياح ما بعد الحرب
يدرك بري أن لبنان لم يُحكم يومًا ضد سوريا، وأن “سوريا الجديدة” بعد الحرب تحظى بدعم عربي ودولي غير مسبوق منذ عام 2011. بالنسبة له، ترسيم الحدود والتنسيق الأمني مع دمشق ليسا مجرد ملفات تقنية، بل بوابة إلى شراكات اقتصادية يمكن أن تفتح نافذة إنقاذ للاقتصاد اللبناني المنهار.
هذا التموضع يلقى قبولًا ضمنيًا من السعودية ودول خليجية أخرى، ما يمنح بري هامش مناورة أكبر في التعامل مع “حزب الله” ومع إيران، من دون أن يقطع خيوط التحالف الاستراتيجي معهما.
علاقته بإيران و”حزب الله”
رغم الشراكة التاريخية، يتعامل بري مع “حزب الله” اليوم وفق قاعدة “الحليف الذي يجب ضبطه لا إطلاقه”. فالحرب الأخيرة أثبتت أن طهران ليست مستعدة دائمًا لدفع الكلفة الكاملة للدفاع عن الحزب، خصوصًا بعد أن وصلت المعارك إلى قلب إيران نفسها. في هذا السياق، يقدّم بري نفسه كـ”صمام أمان” يمنع الانزلاق إلى مواجهة مع الجيش اللبناني أو مع المزاج العربي والدولي الجديد.
الدولة العميقة وإعادة التموضع
من المؤشرات اللافتة أن تغييرات أمنية حساسة —مثل إقالة مسؤولين في مواقع قريبة من الحزب— مرّت دون رد فعل حاد من الضاحية الجنوبية. هذا التحوّل في “الدولة العميقة” يوحي بأن نفوذ بري داخل مفاصل الأمن والإدارة ازداد، ما يمنحه أوراقًا إضافية في لعبة إعادة رسم الخريطة السياسية.
بري في ميزان السياسة الدولية
ظاهرة “صانع السقف” ليست جديدة في السياسة الدولية؛ يمكن مقارنتها بدور شخصيات في أنظمة أخرى تمكنت من ضبط الحلفاء والخصوم معًا، وصياغة حدود الحركة السياسية من موقع غير تنفيذي. لكن في الحالة اللبنانية، يتضاعف أثر بري لأن سقفه يتقاطع مع سقف خارجي تُرسم خطوطه في الرياض وواشنطن وطهران، وهو ما يجعله لاعبًا محوريًا في أي تسوية كبرى تخص لبنان والمنطقة.
سؤال المرحلة المقبلة
هل سيستخدم بري موقعه لتثبيت لبنان في منطقة أمان نسبي، أم سيحوّل السقف إلى قيد دائم يمنع أي إصلاح جذري؟ الإجابة ستتضح مع اختبارين أساسيين: تنفيذ خطة حصر السلاح، ومصير العلاقات الاقتصادية مع سوريا. وحتى ذلك الحين، سيبقى نبيه بري الرقم الأصعب في معادلة لبنان، وصانع السقف الذي لا يمكن تجاوزه.