سوريا على مفترق طرق: هل ينجح أحمد الشرع في كسر حلقة الدم والصراع؟
بقلم الكاتب و الباحث السياسي عبد الحميد عجم

في عالم السياسة، يندر أن نشهد نظامًا جديدًا ينتصر، ثم يتعامل مع خصومه ومحيطه السياسي برؤية تتجاوز الثأر والتصفيات، لكن المشهد السوري اليوم يقدّم استثناءً لافتًا. فمنذ دخول أحمد الشرع إلى دمشق، رأينا مقاربة مختلفة في التعامل مع بقايا النظام السابق، قائمة على الاستيعاب بدلاً من الانتقام، وهو نهج نادر في تاريخ المنطقة.
عبر العقود الماضية، شهدنا كيف تعاملت الأنظمة المنتصرة مع خصومها: في العراق، جرّ البعثيون الشيوعيين في الشوارع، وقبلهم شارك الشيوعيون في تصفية الملكيين. الأميركيون لم يترددوا في تصفية رموز نظام صدام حسين وتسريح نصف مليون من منتسبي حكمه. أما في سوريا، فقد أعدم صلاح جديد خصومه القوميين، قبل أن ينقلب عليه حافظ الأسد، ليبدأ عهد طويل من القمع، بلغ ذروته في مجازر حماة، ثم لاحقًا في السجون التي وثّقتها الأمم المتحدة عبر صور "قيصر" الشهيرة. اليوم، نشهد لحظة فارقة مع النظام الجديد، الذي يقدّم خطابًا مختلفًا، يقوم على طمأنة العلويين والأقليات، واستيعاب من لم يتورطوا في القمع، مما سمح بقبول سريع داخل قطاعات واسعة من المجتمع السوري.
لكن التحدي الأكبر لم يبدأ بعد. فبعد سقوط نظام دام نصف قرن، من الطبيعي أن تظهر محاولات لزعزعة الوضع الجديد. التمرّد في الساحل ليس مفاجئًا، وهو جزء من مرحلة الانتقال الصعبة التي تحتاج إلى إدارة حكيمة، تقوم على التوازن بين الحزم والاستيعاب، وليس فقط على المعالجة الأمنية.
هناك قوى عديدة لن تقبل بسهولة بهذا التغيير. أولها تلك التي فقدت سلطتها وامتيازاتها، مثل بقايا النظام السابق في الداخل، وكذلك الأنظمة الإقليمية التي خسرت برحيل الأسد، وأبرزها إيران والميليشيات المرتبطة بها في العراق ولبنان. هؤلاء لن يتوقفوا عن تأجيج الصراع، واستغلال المخاوف الطائفية، تحديدًا عبر خطاب التخويف من العداء للعلويين، لتحريض نحو مليوني علوي ضد النظام الجديد. حتى شخصيات بارزة مثل رامي مخلوف، التي كانت ركنًا أساسياً في النظام السابق، بدأت تبحث عن تفاهمات جديدة.
لكن المسؤولية اليوم تقع على عاتق النظام الجديد. فحين كان الشرع يقود فصيلًا مسلحًا في إدلب، كانت مسؤولياته محدودة. أما الآن، وقد أصبح رئيسًا لسوريا، فإن خياراته لم تعد كما كانت. لا يمكنه السماح لخصومه بجرّه إلى مستنقع الطائفية والعنف، الذي كان سمة النظام البائد. عليه أن يبرهن أن نظامه ليس مجرد نسخة جديدة من حكم الأسد، بل نموذج مختلف يعالج الأزمات عبر السياسة أولًا، لا بالسلاح وحده.
التحديات الخارجية: هل يمكن لسوريا أن تواجه الجميع؟
الموقف الإقليمي يشكّل معضلة إضافية. معظم الدول العربية سارعت لدعم دمشق، في رسالة واضحة للمجتمع الدولي بأن هناك توافقًا على منح النظام الجديد فرصة للنجاح. لكن يبقى السؤال: كيف سيتعامل الشرع مع الملفات الخارجية المعقدة؟
لا يستطيع النظام الجديد خوض حروب متعددة في وقت واحد. فلا دولة في التاريخ نجحت في مواجهة خصمين بحجم إسرائيل وإيران في آنٍ معًا. إسرائيل، التي دعمت نظام الأسد لعقود، لم تنقلب عليه إلا عندما منح الإيرانيين موطئ قدم في سوريا. اليوم، يواجه الشرع معضلة استراتيجية: إما التفاهم مع إسرائيل، أو الدخول في صدام معها، وإما التعامل مع إيران، مع ما يحمله ذلك من مخاطر. لكن المؤكد أنه لن يستطيع مواجهة الطرفين معًا.
على المستوى الداخلي، تتنازع الرئيس الجديد دعوات متضادة. هناك من يرى أن المصالحة مستحيلة مع من دعم النظام السابق، ويدعو إلى الإقصاء الكامل، وحتى الانتقام. وهناك من يطالب بتغييرات جذرية، مثل الفيدرالية الكاملة، وهي مطالب صعبة التحقيق في ظل عدم استقرار الوضع الأمني. هنا، يتجلى الاختبار الحقيقي لشخصية الرئيس: هل يستطيع السيطرة على رفاقه وخصومه في آنٍ معًا، واحتواء الصراعات السياسية والعسكرية؟
من الواضح أن نظام أحمد الشرع قادر على فرض استقراره ومنع إسقاطه، لكنه يواجه معضلة الزمن والتكلفة. فهل يستطيع اختصار الوقت وتقليل الخسائر، أم أن سوريا ستبقى لسنوات طويلة في معركة استنزاف داخلية وإقليمية؟ الإجابة ستحدد ليس فقط مصير النظام الجديد، بل مستقبل سوريا بأكملها.