نبيه بري... رجل الدولة الأخير وصمام أمان الجمهورية

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

نبيه بري... رجل الدولة الأخير وصمام أمان الجمهورية

في زمن تتنازع فيه الأهواء الطائفية والارتباك السياسي على جسد لبنان، يطلّ نبيه بري كأحد آخر رجالات الدولة الحقيقيين، رجلٌ يحمل في ذاكرته وجع الحروب الأهلية، وفي عقله حكمة التسويات الكبرى، وفي يده ميزانًا دقيقًا بين الممكن والمستحيل.

ليس لأنه الأقوى عدداً، ولا لأنه الأقدم حضوراً، بل لأنه الأكثر درايةً بخريطة لبنان الدقيقة — تلك الخارطة التي لا تُقرأ بالحسابات الرقمية ولا بالولاءات الفئوية، بل بفهمٍ عميق لتوازنات الأرض والدم والذاكرة.

منذ أكثر من ثلاثة عقود، يقف بري على مفترق الأزمات اللبنانية، من الطائف إلى الدوحة، ومن حروب الجنوب إلى حوارات بعبدا، بثباتٍ لافت.

هو شاهدٌ على الدولة أكثر مما هو مجرد سياسي فيها.

من موقعه كرئيس لمجلس النواب، لم يتصرف يومًا كـ"مُسيطر"، بل كـ"ضابط إيقاع" يحاول حماية النظام من نفسه، في بلدٍ يوشك أن ينفجر كلّ يوم.

حين تتعثر الحكومات، يُستدعى بري.

وحين تتصلّب المواقف، يُطلب رأيه.

وحين تسقط الجسور بين الطوائف، يُعاد بناؤها من مكتب عين التينة.

تلك ليست مصادفة، بل نتيجة تراكم خبرة ومهارة ودهاء سياسي يُدرّس في مدارس الحكم.

يقول خصومه إنه “يمسك الخيوط كلها”، لكن الحقيقة أن بري يمسك الجرح — الجرح الطائفي، والجرح الوطني، والجرح النفسي للبنانيين الذين تعبوا من الفوضى.

حين يتحدث عن الحوار، لا يقصد المراوغة، بل الإنقاذ.

وحين يحذّر من سقوط المؤسسات، لا ينطق بلغة الخوف، بل بلغة من يعرف أن لبنان بلا مؤسسات هو لبنان بلا وجود.

في زمن تُستخدم فيه الشعارات كسلاح، يصرّ بري على أن الدولة لا تُبنى على العناد، بل على الشراكة.

هو رجل التسوية الصعبة، لا المساومة الرخيصة.

هو من يؤمن أن السلاح لا يوازي الشرعية، وأن المقاومة بلا دولة تتحول إلى فوضى.

قد يختلف معه البعض، وقد ينتقده كثيرون، لكن لا أحد يستطيع أن يُنكر أن بري هو نقطة توازن لبنانية وعربية.

في لحظة يتنازع فيها المحاور الإقليمية السيطرة على الساحة اللبنانية، يظهر بري كـ"حارسٍ صامت" لخطوط التواصل بين الجميع — بين طهران والرياض، بين بيروت ودمشق، بين الدولة والمجتمع.

هو رجلٌ يجيد فن الإمساك بالخيط الأخير قبل الانفجار،

ويفهم أن الانهيار ليس حدثًا سياسيًا فقط، بل مأساة إنسانية على أجيال كاملة.

لهذا، حين يتحدث، يُنصت الداخل والخارج، لأن الرجل الذي رأى لبنان ينهض من الرماد، لا يريد له أن يعود إليه.

ليس بري زعيم طائفة فحسب، بل ذاكرة وطنٍ يبحث عن توازنه.

في كل أزمة، يثبت أنه ليس جزءًا من المشكلة، بل جزءًا من معادلة الحل.

يُدرك أن الحكم ليس إدارة سلطة، بل إدارة توازن هشّ بين النار والرماد.

ولأنه يعرف حدود القوة، يحاول أن يجعل منها وسيلة لحماية السلم الأهلي لا لتفجيره.

في زمنٍ يسقط فيه كثيرون أمام إغراءات العنف أو الاستعراض، يبقى نبيه بري رجل الدولة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة:

هادئ حين يصرخ الآخرون، صلب حين يتهاوى الموقف، وحكيم حين يتهور الجميع.

قد لا يُجمع اللبنانيون على زعيم، لكنهم يتفقون في لحظات الخطر أن هناك من يحمل مفاتيح الاستقرار، وأن عين التينة ما زالت بيتًا للحوار الوطني.

نبيه بري ليس فقط رئيس مجلس النواب، بل رئيس مجلس إنقاذ لبنان — رجل يعرف أن الدولة لا تُبنى بالخطب، بل بالعقل البارد والإرادة الصلبة.

في زمنٍ تتهاوى فيه المعايير، ما زال نبيه بري يكتب بفِعل الصبر ما يعجز عنه كثيرون بالبيانات.

هو رجل الدولة الأخير... وصمام أمان وطنٍ يتأرجح على حافة الغياب.