لم نحرر فلسطين... ولم نُحيي لبنان: هذه حصيلة الحرب

بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

لم نحرر فلسطين... ولم نُحيي لبنان: هذه حصيلة الحرب

خمسة عقود مرت منذ أن اشتعلت شرارة الحرب الأهلية اللبنانية، وما زال دخانها يخيّم فوق رؤوسنا، ولو بدا للوهلة الأولى أن البلاد تنعّمت بسلام هشّ. نصف قرن من الذكرى، فهل نسينا؟ أم تعلّمنا؟ أم نُعيد ببساطة تدوير الكارثة؟

 

الحرب، التي أكلت الأخضر واليابس، لم تكن مجرّد معركة مسلحة. كانت حرباً على العقل، على القيم، على الهوية. كانت اختباراً لكل ما نؤمن به، وسقطنا فيه جميعاً. واليوم، بينما يُشعل جيل جديد شمعة "اليوبيل الذهبي" للحرب، لا تبدو البلاد أقرب إلى الشفاء. بل إن جراح الطائفية ما زالت مفتوحة، وسياسات المحاصصة تعيد إنتاج الانقسام بأسماء ناعمة.

 

طرابلس: المدينة التي لم تُشفَ بعد

 

من طرابلس، أكتب هذه الكلمات، حيث الحرب لم تنتهِ فعلاً، بل لبست أقنعة جديدة. في الأحياء القديمة، وبين الأزقة التي تحمل آثار الرصاص والحرمان، تفوح رائحة الإهمال أكثر من البارود. عاصمة الشمال لم تكن يوماً على طاولة القرار، بل كانت ساحة لتصفية الحسابات، وحاضنة لفقر مصطنع تُرك ليتحول إلى قنبلة اجتماعية.

 

طرابلس دفعت فاتورة الحرب ولم تقبض شيئاً من السلام. المدينة التي تعاقبت عليها الحكومات والوعود، لم تطالب يوماً بالكثير: فقط بحقّها بالحياة الكريمة، بالمدرسة، بالمستشفى، وبأن لا تكون حطباً لحرب لا تُشبه أبناءها.

 

هل يُعقل أن مدينة بهذه العراقة، وبهذا العمق الثقافي، تُختزل بجولات عنف ورايات حزبية؟ طرابلس تستحق رواية مختلفة... لا صورة نمطية تُرسم لها من بيروت، ولا اتهامات جاهزة تُلصق بها عند كل أزمة.

 

جيل لم يُولد بعد... ما زال يدفع الثمن

 

أبناء الحرب خسروا، لكن أبناء ما بعدها خُدعوا. كبر جيل كامل على حكايات أبطال الحرب ومآثر الشهداء، دون أن يُقال لهم الحقيقة: أن من قُتل، قُتل عبثاً، وأن من حمل السلاح لم يُحرر وطناً بل رهنه لدماء لا تجف.

 

اليوم، شوارعنا مكتظة بالفقر، شبابنا يهاجر أو يغرق في البحر، ونظامنا الطائفي ينتج دولة فاشلة لا تشبه أحلام الذين نجوا. فهل فعلاً انتهت الحرب؟ أم أنها ببساطة غيرت وجهها ووسائلها؟

 

لا بطولة في القتل، ولا شرف في التحريض

 

نحتاج إلى شجاعة أكبر من حمل السلاح: شجاعة مواجهة الذات. كثيرون ممن شاركوا في الحرب خرجوا منها بدون "أمجاد"، بل بجروح لا تُرى، وندم خافت لا يُقال. وربما كان أصدق من تكلّموا هم أولئك الذين "زمطوا بجلدهم"، الذين لم يطلقوا النار، ولم يُقتَلوا. لأنهم فهموا – ولو متأخراً – أن لا أحد يربح في الحرب الأهلية... الكل خاسر.

 

إن استمرار لبنان كدولة لا يمر عبر السلاح، ولا عبر التسويات الوقتية، بل عبر كسر الحلقة الجهنمية للطائفية. العلمانية ليست شعاراً، بل حلاً إنقاذياً. هي ما سيمنع الحرب القادمة، وما سيسمح للبناني أن يكون مواطناً لا تابعاً. لا نريد أن نحمل على أكتافنا جثث حرب جديدة، ولا أن نكتب في كل 50 سنة مقالاً عنوانه: "ماذا حصدنا؟"

 

من لم يخض الحرب لم يكن جباناً، ومن لم يحمل السلاح لم يكن متخاذلاً. الشجاعة أن ترفض القتل عندما يصفق له الجميع. والشرف في أن تقول "كفى" بينما الآخرون يصرخون "دم!"

 

اليوم، في ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية، نحتاج إلى سرد جديد، لا يُحرّض بل يُحذّر، لا يُمجّد بل يُراجع. لأننا إذا لم نكتب الحقيقة، سيكتبها الدم من جديد.