لبنان بحاجة إلى ولادة سياسية جديدة: تيار وطني يعيد الروح للدستور ويبني دولة المواطنة
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
يمر لبنان اليوم بمنعطف خطير في تاريخه السياسي والاجتماعي. تتراكم الأزمات وتتعاظم التحديات في ظل غياب مشروع وطني جامع يضع المصلحة العامة فوق الاعتبارات الطائفية والفئوية. في هذه اللحظة الحرجة، تبدو الحاجة ماسة لتيار سياسي جديد ينبثق من الشعب ويعمل على تجديد الحياة السياسية، مستندًا إلى مبادئ اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وملتزمًا ببناء لبنان جديد يعكس تطلعات كل اللبنانيين.
- اتفاق الطائف: الجذور التي لا تُهمل
اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية وأرسى أسس العيش المشترك، يمثل نقطة انطلاق ضرورية لأي مشروع وطني جديد. لكن على مدار العقود الماضية، أُفرغ الاتفاق من مضمونه، وأصبح وسيلة لتعزيز التجاذبات السياسية بدلاً من أن يكون خارطة طريق لإعادة بناء الدولة.
اليوم، يحتاج لبنان إلى تيار سياسي يعيد إحياء روح الطائف، ليس فقط كنص قانوني، بل كمنظومة قيم تسعى لتعزيز الوحدة الوطنية والمواطنة. يجب أن يُطرح الاتفاق كوثيقة تُفعَّل على أرض الواقع، من خلال الالتزام بمبادئها الإصلاحية وإيجاد آليات تنفيذية واضحة لتطبي
- الدستور اللبناني: حجر الأساس
الدستور اللبناني هو الإطار القانوني الذي يضمن الحقوق والواجبات لجميع المواطنين. إلا أن التطبيق الانتقائي لبعض بنوده جعل منه أداة في يد قوى سياسية معينة. التيار الجديد يجب أن يُعيد الاعتبار للدستور باعتباره وثيقة تُرسي مبادئ المساواة والعدالة، وأن يعمل على ضمان الالتزام الكامل به من خلال تعزيز استقلال القضاء، وتفعيل مبدأ المحاسبة، وإزالة الحصانات التي تُعطل مسار العدالة.
- تيار سياسي شامل: المثقفون والمجتمع
التغيير لا يمكن أن يتم من داخل المنظومة التقليدية التي أثبتت فشلها. المطلوب هو تيار سياسي جديد يمثل صوت المثقفين والمفكرين، ويشمل كل شرائح المجتمع اللبناني، بغض النظر عن الطائفة أو المنطقة. هذا التيار يجب أن يكون جامعًا، يضع المواطنة فوق كل الاعتبارات، ويُبرز قوة التنوع اللبناني كعنصر للتكامل، وليس للتفرقة.
- دور المثقفين: المثقفون هم القادرون على صياغة رؤية واضحة للبنان الجديد. يمكنهم قيادة النقاش الوطني وتقديم الحلول بعيدًا عن المزايدات السياسية.
- القاعدة الشعبية: يجب أن يتواصل التيار الجديد مع جميع الطوائف، بخطاب يطمئنها ويعزز انتماءها للوطن بدلًا من استغلال مخاوفها.
معالجة الطائفية: طريق المواطنة
الطائفية هي العقبة الأكبر أمام بناء لبنان الجديد. لكن تجاوزها لا يعني إنكار وجود الطوائف، بل ضمان تمثيلها في إطار المواطنة المتساوية. يجب أن يتحلى الخطاب السياسي الجديد بالحكمة، وأن يخاطب كل لبناني باعتباره جزءًا من الوطن الكبير، مع احترام خصوصية كل طائفة دون السماح باستخدامها كأداة للهيمنة السياسية.
خطوات لبناء لبنان الجديد
لتأسيس لبنان الجديد، يجب العمل على عدة محاور أساسية:
. الإصلاح السياسي:
صياغة قانون انتخابي عادل يقوم على مبدأ النسبية خارج القيد الطائفي.
تعزيز استقلالية القضاء وإلغاء المحاكم الاستثنائية.
. العدالة الاجتماعية:
وضع سياسات اقتصادية تعالج الفقر والبطالة، مع التركيز على دعم القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة.
توفير تعليم نوعي مجاني ورعاية صحية للجميع.
- مكافحة الفساد:
اعتماد الحوكمة الإلكترونية لتعزيز الشفافية.
محاسبة المسؤولين المتورطين في قضايا الفساد دون أي تمييز.
- بناء المؤسسات:
تعزيز دور المؤسسات الرسمية بدلًا من الاتكال على الزعامات الفردية.
تفعيل اللامركزية الإدارية لتلبية احتياجات المناطق المختلفة.
- إعادة الطائفة الشيعية إلى الحضن اللبناني:
الطائفة الشيعية جزء أصيل من النسيج اللبناني، ودورها في بناء لبنان لا يمكن إنكاره. التيار الجديد يجب أن يخاطب أبناء هذه الطائفة بلغة وطنية جامعة، تُبرز انتماءهم للوطن وتعزز مساهمتهم في مشروع لبنان الكبير بعيدًا عن المحاور الإقليمية.
التيار السياسي الجديد يجب أن يُصاغ بخطاب صادق ومؤثر يلامس احتياجات اللبنانيين، ويعكس أحلامهم بوطن يعيشون فيه بكرامة. الخطاب يجب أن يرتكز على مبادئ ثلاث:
- الوحدة الوطنية: لبنان للجميع، ولا يمكن أن يُبنى إلا بسواعد جميع أبنائه.
- المواطنة: كل مواطن له حقوق متساوية بغض النظر عن دينه أو طائفته.
- الدولة المدنية: فصل الدين عن السياسة دون المساس بالحرية الدينية.
لبنان بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الطائفية ويعيد بناء الدولة على أسس العدالة والمساواة. هذا المشروع يجب أن ينبثق من الشعب ويُديره أبناء الشعب، بعيدًا عن النخب التقليدية التي استنفدت خياراتها. لبنان الجديد لن يكون إلا لبنانًا يحترم تنوعه، ويكرس مواطنته، وينهض بسواعد أبنائه المخلصين.
ليبقى لبنان رسالة للعالم في العيش المشترك والحرية والكرامة. الآن، حان الوقت لبناء هذا المستقبل، حان الوقت لنصنع لبنان الذي نحلم به جميعًا.