طرابلس بلا مجلس بلدي: هل تُدار المدن اللبنانية بالمناكفات أم بالمسؤولية؟
خاص مراسل نيوز

في مدينة تتنفس الأزمات، وتكاد تختنق من فرط الإهمال، تكرّست مأساة جديدة: طرابلس بلا بلدية. اثنا عشر عضواً منتخَباً، لاجئون جماعياً إلى "الاستقالة"، يتركون وراءهم شارعاً يغلي، ومدينة تبحث عمن يرفع عنها الغبن المزمن. ليست مجرد أزمة إدارية، بل مرآة مقلقة لمشهد سياسي لبناني مأزوم، حيث تُدار المدن بالتجاذب لا بالرؤية، وبالاستقالة لا بالمساءلة.
استقالات بالجملة... ومواطنون رهائن
ما حدث في طرابلس ليس سوء تفاهم. إنه انفجار مؤسسي، ضرب قلب الحُكم المحلي. فاستقالة نصف أعضاء المجلس البلدي ليست موقفاً شخصياً، بل هدمٌ جماعي لبنية تم انتخابها من الناس، ولأسباب لا تزال غامضة للرأي العام.
ما سُرّب من مداولات، يُظهر أن السبب ليس فساداً فاضحاً، ولا انهياراً إدارياً، بل مجرد عدم انسجام بين "لوائح متنازعة". كأنّ الديمقراطية أصبحت لعبة كراسي، لا عقد ثقة مع الناس.
من يحكم طرابلس؟ ومن يُحاسَب؟
في غياب المجلس البلدي، من يقرر؟
من يوقّع؟
من يراقب؟
أليست هذه المدينة نفسها التي تُركت بلا كهرباء أياماً، وبدون جمع نفايات أسابيعاً؟ من يملك ترف إسقاط هيئاتها المنتخبة في الوقت الذي تنزف فيه كل الخدمات؟
هل يعلم المستقيلون أن طرابلس تعاني اليوم من أزمة مياه، ونقص في الصيانة، وشوارع تشكو من العتمة والفوضى؟
هل قرروا الانسحاب لأنهم لم يحصلوا على مناصب؟ أم لأنهم يئسوا من العمل؟ أم لأن الخلافات الشخصية باتت أقوى من المصالح العامة؟
أزمة وطن تُختصر في مجلس
طرابلس اليوم ليست وحدها. ما يحدث في بلديتها هو نموذج مصغّر لما يحدث في الدولة اللبنانية كل يوم. هياكل تنتخب ثم تنهار. تحالفات تتكوّن ثم تتفتت. والناس… دائمًا خارج الحساب.
هل يمكن لأي مدينة في العالم أن تُدار عبر وساطات؟
هل يُعقل أن يكون مصير المجلس البلدي معلّقاً على توقيع ورقة "تعهد بعدم الاستقالة"؟
أين القانون؟ أين المساءلة؟ أين وزارة الداخلية؟ وأين التفتيش المركزي؟
المفتي… والفراغ السياسي
وسط هذا الفراغ، ظهر المفتي محمد إمام كمحاولة لملء غياب الدولة. فجمع، ووقّع، وتوسّط. ولكن السؤال الأهم:
هل يُعقل أن يُسلَّم القرار البلدي لمرجعية دينية؟
هل نحن أمام بلدية… أم "مجلس عرفي"؟
مع التقدير لأي جهد صادق، فإن ما يحصل ليس بديلاً عن الدولة بل مؤشراً على فشلها.
فطرابلس لا تحتاج راعياً روحياً بل حُكماً مدنياً فاعلاً، منتخباً، خاضعاً للمحاسبة.
مدينة تُستخدم ثم تُنسى
الطرابلسيون لا يريدون بلدية "بالتوافق"، ولا مجلساً يدار بـ"الترضيات". يريدون من يحلّ أزمة الكهرباء، والمياه، ويمنع انهيار الأبنية، ويعيد تأهيل الحدائق والمدارس.
لكنّ الصراعات السياسية حوّلت المجلس البلدي إلى ساحة مزاد لا إدارة محلية. وكأن المدينة مجرّد ورقة تفاوض، لا كيان مدنيّ له أولوية.
صرخة ختامية: كفى عبثاً!
هذه ليست أزمة بلدية فقط. هذه صفعة في وجه الديمقراطية المحلية في لبنان. إذا كانت طرابلس – بكل رمزيتها، وحجمها، وفقرها، وكرامتها – تنهار على أيدي أبنائها المنتخبين، فمن يضمن مصير باقي المدن؟
المطلوب ليس وساطات. المطلوب تحقيق شفاف. محاسبة سياسية. إعادة بناء للثقة.
فطرابلس ليست قاصراً بحاجة إلى وصاية. إنها مدينة جريحة بحاجة إلى عدالة، وشجاعة، ورجال دولة... لا هواة مناكفات.
الناس لم ينتخبوكم لتستقيلوا... بل لتخدموا.
وإذا لم تتمكّنوا من أداء واجبكم، فاستقيلوا بكرامة، لا كوسيلة ضغط!