انتحار سيادي: حزب الله يُملي... والدولة تطيع

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

انتحار سيادي: حزب الله يُملي... والدولة تطيع

في لحظة يُجمع فيها الداخل اللبناني والمجتمع الدولي على ضرورة طيّ صفحة السلاح غير الشرعي، وفيما يلوح في الأفق بصيص أمل لإعادة بناء دولة تمتلك قرارها السيادي الحر، يخرج "حزب الله" كعادته، حارساً لمنطق القوة، رافضاً التزامات الدولة، ومهدداً بفوهة البندقية كل مسعى للحل.

الموفد الأميركي توماس برّاك، الذي يصل إلى بيروت الاثنين، حمل معه ورقة تُعَد الأخطر منذ عقود، ليس فقط لأنها تطالب بتسليم سلاح "حزب الله"، بل لأنها تُمهّد لتسوية متكاملة تعيد للدولة اللبنانية هيبتها، وتنقذ اقتصاداً يحتضر ومؤسسات تتآكل. لكن الحزب، كعادته، يحوّل أي مبادرة إلى تهديد وجودي، ويجند نوابه لترديد خطاب خشبي يرفض التفاوض أو التنازل.

اللجنة الثلاثية التي شكّلها الرؤساء جوزيف عون، نبيه بري، ونواف سلام، لم تتمكن حتى اللحظة من صياغة رد موحّد، والسبب واضح: حزب الله يعطل الداخل كما عطّل الدولة منذ عقود. ورغم محاولات بري استرضاء الحزب ونسج موقف وسطي، يبقى الرد معلقاً على موقف طرف لا يعترف بمنطق الدولة.

ما يحدث اليوم هو أن استراتيجية الربع ساعة الأخيرة لحزب واحد تُقابل بالتزامات من ثلاثة رؤساء يمثلون الدولة، وهو ما يشكل صفعة سافرة للسيادة الوطنية. أي تلكؤ في اتخاذ موقف حاسم لن يكون سوى انتحار سيادي كامل للدولة وللبنان. القرار لم يعد بيد الدولة بل في قبضة الحزب، والدولة تسير بخطى ثابتة نحو أن تكون ملحقاً لدويلة تتحكم بكل مفاصل القرار.

المفارقة أن برّاك، في رسالة نشرها على منصة "إكس"، تحدث بلغة أمل وشجاعة: "الفرصة سانحة الآن... لبنان يستطيع أن يكون وطناً بجيش واحد وشعب واحد". لكن واقع الحال أن الحزب لا يريد لبنان واحداً، بل ساحة متعددة الولاءات، يحكمها منطق المحاور والمليشيات.

تسريبات من اللجنة تفيد أن الحزب وضع شروطاً تعجيزية: تنفيذ إسرائيل أولاً لوقف إطلاق النار، إعادة الأسرى، وإعادة الإعمار، ثم "النقاش" حول السلاح. والحقيقة أن هذه الشروط ما هي إلا ستار لتأبيد وضع اللاسلم واللاحرب الذي يتيح للحزب الإمساك برقبة الوطن.

بدل أن يواكب لحظة تاريخية يُطالب فيها الداخل والخارج بخلاص لبنان من السلاح الخارج عن القانون، يصعّد الحزب تهديداته. نائب كتلة الوفاء علي المقداد يقولها بوضوح: "السلاح ليس محل نقاش ولا مقايضة". فيما يرد زميله رائد برو على المطالبين بتسليمه: "لن نسلم رقابنا لعدونا"، في خلط متعمّد بين السلاح الشرعي والدولة، والعدو والوطن.

لا صوت في الحزب يقبل حتى النقاش. لا مساحة لعقلانية سياسية. إنها مقاومة ضد كل محاولة بناء، وضد كل دعوة للسيادة.

لبنان الرسمي يقف اليوم عند مفترق تاريخي. إما أن يرفع صوته ويقول "كفى"، ويواجه حقيقة أن حزب الله لم يعد شريكاً سياسياً بل قوة أمر واقع تفرض أجندتها الإيرانية، أو يواصل الانحدار في نفق السلاح الموازي والاقتصاد المنهار.

إن "الفرصة السانحة" التي تحدّث عنها برّاك لن تبقى سانحة طويلاً. وإذا أضاعها لبنان، فلن تضيع فقط على الدبلوماسية، بل على أجيال كاملة تنتظر وطناً حقيقياً لا تحكمه المليشيا.

إنه زمن القرار، فهل يتجرأ لبنان الرسمي على اتخاذه؟