نواف سلام… القاضي الدولي الذي ترك طرابلس من دون حكم: من فشل التنمية إلى غياب القرار في دولة بلا سلطة فعلية

بقلم هئية التحرير خاص مراسل نيوز

نواف سلام… القاضي الدولي الذي ترك طرابلس من دون حكم: من فشل التنمية إلى غياب القرار في دولة بلا سلطة  فعلية

منذ لحظة تكليف القاضي الدولي نواف سلام تشكيل الحكومة، عمّت طرابلس حالة نادرة من التفاؤل. المدينة التي وُصمت بالحرمان، رأت في اسم سلام — الرجل الذي رفع راية العدالة في محاكم العالم — فرصة أخيرة لإنصافها بعد عقود من الإهمال.

لكن ما إن مرّت الأسابيع، حتى تبيّن أن الأمل الذي عُلّق على الأبواب القديمة للمدينة لم يجد طريقه إلى مكاتب الحكومة الجديدة.

سلام، الذي مثّل لبنان في أرفع المحافل الدولية، يقف اليوم أمام امتحان محلي أشدّ قسوة: كيف يُقيم العدل في دولة لا تملك القدرة على تنفيذ قراراتها؟

في لاهاي، كان نواف سلام صوتًا للقانون الدولي.

في بيروت، صار شاهدًا على دولة تتآكل سلطتها أمام عجزها الإداري والسياسي.

وطرابلس، المدينة التي انتظرته كقاضٍ منصف، ما زالت تنتظر “حكمه” الذي لم يصدر بعد.

الوعود كثيرة: خطط إنقاذ، مشاريع تنموية، برامج اجتماعية، ولكنها بقيت حبرًا على ورق.

في الأحياء الشمالية من الميناء إلى التبانة، لا يرى الناس سوى فواتير تتراكم وطرقات تنهار.

الشباب هاجروا أو اختنقوا في زوايا البطالة.

المؤسسات التجارية تتساقط تباعًا تحت ضغط ديونٍ تمثّل ديون الدولة نفسها منها 40 إلى 50 بالمئة.

طرابلس ليست مشكلة تنموية فقط؛ إنها مرآة فاضحة لعجز الدولة اللبنانية.

فكل ما تعانيه المدينة من إهمال، هو صورة مصغّرة لما يعانيه البلد بأسره: قرارات تُعلن ولا تُنفّذ، ووعود تُقال ولا تُترجم.

عندما تُقرّر الحكومة مشاريع كبرى — من سكة الحديد إلى المنطقة الاقتصادية الخاصة — تبقى حبيسة العناوين.

يُعلن المسؤولون “خططًا إصلاحية”، ثم تُدفن في اللجان.

تُشكَّل الحكومات، لكنّها تظل رهينة التوازنات، والتردد، والخوف من مواجهة الواقع.

وهكذا تتحوّل الدولة إلى هيكل بلا سلطة فعلية، إلى حكومة تصدر قرارات أكثر مما تُنفّذ، إلى نظام إداري عاجز عن حمل مسؤولية الإنقاذ.

نواف سلام ليس سياسيًا تقليديًا.

هو قاضٍ تربّى في مدرسة العدالة العالمية، يفهم معنى المبدأ والقانون والمسؤولية.

لكنّ الصورة التي رسمها اللبنانيون عنه تصطدم الآن بجدار واقعٍ أقسى:

دولة بلا أدوات تنفيذ، حكومة بلا صلاحيات كاملة، ونظامٍ يستهلك رجالاته كما يستهلك ثرواته.

لم يعد السؤال: “هل يريد سلام الإصلاح؟”

بل: هل يستطيع أي رئيس حكومة في لبنان تنفيذ قرار واحد من دون أن يذوب في دوامة الانقسام والعجز؟

الوعود المؤجلة... والعدالة الغائبة

الناس في طرابلس يسألون ببساطة:

> “أين الخطة؟ أين المشاريع التي وُعدنا بها؟ لماذا تبقى قرارات الإنقاذ كلمات تُقال في المؤتمرات ثم تختفي؟”

الإجابات غامضة، والنتائج معدومة.

المواطن لا يريد بيانًا وزاريًا، بل طريقًا صالحًا.

لا يريد لجنة وزارية، بل فرصة عمل.

لا يريد شعارات “استعادة الدولة”، بل دولة تُستعاد فعلاً.

طرابلس اليوم ليست استثناءً، بل إنذار.

ما يحصل في الشمال ينسحب على كل لبنان:

قرارات بلا تطبيق.

مشاريع بلا تمويل.

خطط بلا جرأة.

حكومة بلا نفوذ فعلي.

ومن هنا، يُطرح السؤال الأخطر:

> كيف يمكن لدولة لا تُنفّذ قراراتها الصغيرة، أن تواجه تحدياتها الكبرى؟

وكيف يمكن لرئيس حكومة أن يحقق العدالة الاجتماعية، إن كان لا يملك سلطة العدالة التنفيذية؟

عندما يصمت القاضي، تتكلم المدينة

يا دولة الرئيس،

طرابلس لم تطلب المستحيل، بل العدالة التي بشّرتم بها في المحافل الدولية.

لكن العدالة لا تتحقق بالبيانات، بل بالفعل، بالقرار، بالإرادة.

طرابلس ليست مدينة في الهامش، إنها امتحان الدولة اللبنانية بأكملها:

إما أن تنهض معها… أو تسقط كما سقطت كل الوعود من قبل.

وإذا كانت العدالة التي حملتها إلى العالم قد وجدت في لاهاي منبرًا،

فإنها اليوم تحتاج في طرابلس إلى قرارٍ واحدٍ شجاعٍ… لا أن تبقى مجرّد حبرٍ على ورق.

من طرابلس الصغيرة إلى لبنان الكبير، المشكلة واحدة: غياب القرار الفعلي.

والدولة التي لا تُنفّذ قراراتها، لا تحتاج إلى قاضٍ جديد… بل إلى حكمٍ جديد للتاريخ نفسه.