الجمهورية المخطوفة: عندما يتجرأ لبنان على مصادرة مصيره من قبضة السلاح
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

اللحظة الراهنة في لبنان ليست لحظة أزمة… إنها لحظة تفكيك للكيان، وإعادة تشكيل لمعناه من جديد. هي اللحظة التي يُسائل فيها البلد نفسه: هل ما زلت دولة، أم أصبحت وظيفة مؤقتة في دفتر المحاور الإقليمية؟
لبنان، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الأهلية، يقترب من مفترق تاريخي لا يشبه أي محطة سابقة. رئيس الحكومة نواف سلام، بخلفيته الدبلوماسية الأممية، كسر جدار الخوف السياسي، وطرح على طاولة مجلس الوزراء أكثر الملفات مسًّا لجوهر الجمهورية: ملف سلاح حزب الله.
لكن علينا أن ننتبه جيدًا: ما طُرح ليس "سلاح الحزب"، بل سؤال الوجود.
فإما أن يكون لبنان دولة واحدة بسلاح واحد، أو يبقى مسرحًا للآخرين، ويُدفن بهدوء تحت ركام الصمت والخوف.
بين الجغرافيا والسيادة: لبنان الذي ذاب في منطق الميليشيا
الجغرافيا لم تعد كافية لتعريف الدولة. السيادة وحدها هي المعيار. ولبنان، الذي يملك حدودًا وجيشًا وعلمًا، يُدار منذ عقدين بمعادلة مفخخة: جيش تحت الدولة، وسلاح فوقها.
سلاح حزب الله لم يعد أداة ردع، بل أداة تعطيل:
يعطّل القرار الحكومي.
يمنع التفاوض الحر مع المجتمع الدولي.
يشوّه معنى الحياد والانتماء العربي.
ويمنح طهران حق "الفيتو السيادي" في بيروت.
هذا السلاح، الذي رُفعت فوقه راية المقاومة، يمنع مقاومة الانهيار الوطني الداخلي.
القرار... أو الانقراض
قرار نواف سلام بوضع ملف السلاح على طاولة مجلس الوزراء ليس مبادرة إصلاحية، بل فعل تمرد استراتيجي على منظومة ما بعد الطائف. إنه إعلان بأن الدولة قررت أخيرًا أن تنظر في المرآة وتقول: "إما أنا، أو ظلي المسلح".
لكن هذه المواجهة لا تدور فقط بين الدولة والحزب، بل بين الشرعية والسيولة، بين من يريد دولة قانون، ومن يحكم بمنطق السلاح المغلّف بالشرعية المعلّبة.
المعادلة التي أمام لبنان واضحة:
إذا أقرّ المجلس القرار، يبدأ لبنان ببطء استعادة تعريفه كدولة.
وإذا فشل القرار، تنسحب الدولة من التاريخ، وتتحول إلى هيكل إداري يتقاسم فيه الفاعلون المحليون والإقليميون الغنائم.
فلسطين على طريق الدولة… ولبنان في نفق الدويلة
المفارقة الموجعة أن فلسطين، وهي تحت الاحتلال، تُراكم الاعترافات الدولية، وتُعيد تشكيل سردية الشرعية السياسية، بينما لبنان، المستقل نظريًا، يتفكك تحت سطوة فوهة بندقية تتحدث باسم الدولة ولا تخضع لها.
السعودية، التي تقود تحركًا تاريخيًا نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ترى في لبنان كيانًا عاجزًا عن تقديم ما يُشجّع على الدعم. ليس لأنه لا يستحق، بل لأنه يرفض أن يُعلن نفسه كدولة ذات سيادة كاملة.
لماذا الآن؟ ولماذا لا مجال للتراجع؟
إيران ضعفت اقتصاديًا وسياسيًا بعد الانهيارات الداخلية، وهذا ما قلّص هامشها في توجيه أدواتها الإقليمية.
إسرائيل أنهكت نفسها في جبهات غزة والجنوب، ما فتح نافذة لإعادة النقاش حول وضع السلاح خارج المعركة.
الغرب والخليج يربطان أي دعم للبنان بإعادة تعريفه كدولة، لا كساحة.
وهنا تبرز قوة قرار نواف سلام: الربط بين السيادة السياسية والجدوى الاقتصادية، بين الأمن والإصلاح، بين السلاح والدولة.
الجيل الأخير من الجمهورية
نحن لا نعيش أزمة، بل زمن نهاية نظام، وبداية دولة جديدة أو لا دولة.
نحن أمام جيل لبناني أخير يمكنه أن يُحدث التحوّل.
إذا انتصر منطق الدولة، سيتغير المشهد العربي كله:
ستسقط فكرة أن الميليشيا تحكم بالإجماع، وأن الخوف بديل للحوار.
أما إذا سقط القرار… فسيتحوّل لبنان إلى كيان ورقي، يُستخدم كلما احتاج محورٌ إلى منصة، أو عدوّ إلى ذريعة.
السؤال لم يعد: "هل يمكن أن يُنزع سلاح حزب الله؟"
بل: "هل يمكن أن يُولد لبنان من جديد… أم أن الجمهورية المخطوفة ستُدفن دون مقاومة؟"