لبنان على حافة الغياب: الفرصة الأخيرة قبل السقوط
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبدالحميد عجم
يقف لبنان اليوم على عتبة دقيقة من تاريخه الحديث، حيث تلتقي هشاشة الداخل بعنف الخارج، وتتقاطع إرادات الإقليم فوق خريطةٍ لم تعد قادرة على الاحتمال. ليس في الأمر تهويل، بل تشخيص لواقعٍ تآكلت فيه الدولة، وتقدّمت الفوضى إلى حدودها القصوى. ما كان يُسمّى “الأزمة اللبنانية” لم يعد أزمةً بعد اليوم، بل تحوّلاً وجوديًا يهدّد بفقدان الكيان معنوياً وسياسياً وأمنياً إن لم تُلتقط الفرصة الأخيرة التي تلوح في الأفق.
قبل عام واحد فقط، كانت أمام لبنان نافذة تفاوضية محدودة برعاية دولية، أتاحت للمرة الأولى احتمال تسوية شاملة تشمل الحدود، واللاجئين، والمعتقلين، وإعادة الإعمار. لكنّ الحسابات الضيّقة، وذهنية المكابرة، والرهان على الزمن، جعلت السلطة السياسية تُضيّع تلك النافذة كما أضاعت ما قبلها.
ظنّت الطبقة الحاكمة أنّ الرفض بطولة، وأنّ تأجيل القرارات يحميها من الكلفة السياسية، بينما كان الواقع يهيّئ المسرح لانفجارٍ أكبر. هكذا، انتقلت البلاد من مرحلة “الفرص” إلى مرحلة “الإنذارات”.
اليوم، الجنوب اللبناني لم يعد “منطقة تماس” بل منطقة اختبار.
الحدود التي رُسمت بالنار عام 2006 تُعاد صياغتها بالاستنزاف، والمواجهات المحدودة تتّسع تدريجيًا، في ظلّ صمتٍ رسميّ يختزل الأزمة في بياناتٍ باردة.
المعادلة الجديدة بسيطة وخطيرة في آنٍ واحد: إسرائيل تُحافظ على استنزافٍ منخفض الكلفة، ولبنان يُستنزف في اقتصاده ومجتمعه ونسيجه الداخلي. ومع كلّ يومٍ يمرّ، يتحوّل الجنوب إلى نسخة مطوّرة من غزّة ما قبل الانفجار الكبير — منطقة محاصَرة بالقرارات المعلّقة والخيارات المستحيلة.
السلطة اللبنانية اليوم تتصرّف كما لو أنّها تملك ترف الوقت.
بين رئاسةٍ تنتظر الإجماع، وحكومةٍ تُدار بالحدّ الأدنى، ومؤسساتٍ مالية وأمنية على حافة الانهيار، يضيع القرار في زحمة البيانات.
المشكلة ليست في العجز، بل في الإنكار البنيويّ: إنكار لحجم الخطر، لإنذارات المجتمع الدولي، ولحقيقة أنّ لبنان لم يعد في موقع المراقب بل في قلب العاصفة الإقليمية.
لقد تحوّل النظام السياسي إلى منظومة دفاع عن الفراغ، لا عن الدولة.
التحوّل الأعمق أنّ المجتمع الدولي بدأ يتعامل مع الملف اللبناني بوصفه ملفًا ثانويًا.
الولايات المتحدة خفّضت مستوى اهتمامها، وأوروبا غارقة في أولوياتها، والعرب تعبوا من الدوران في حلقة لبنانية مفرغة.
الرسالة واضحة: إمّا أن يبادر لبنان إلى حلٍّ ذاتيٍّ متماسك، أو يُترك لمصيره.
ولذلك، فإنّ أي مبادرة أميركية أو مصرية أو أممية مقبلة ستكون “الفرصة الأخيرة” قبل أن تُرفع الأيدي عن هذا البلد نهائيًا.
في ظلّ هذا الانهيار المتدرّج، يبقى الجيش اللبناني المؤسّسة الوحيدة التي تحظى باحترامٍ داخليٍّ وخارجيٍّ معاً.
لكنّ قدرة الجيش على الصمود ليست بلا سقف، وهو يحتاج إلى غطاءٍ سياسيّ واضح يتيح له أن يكون عنصر توازن لا أداة تجميد.
ومن دون رؤية وطنية شاملة تدعم هذا العمود الأخير، لن يتمكّن من منع الانهيار العام، مهما بلغت كفاءته أو تضحياته.