بري وجعجع: خصام الكبار… وانكسار وطن

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

بري وجعجع: خصام الكبار… وانكسار وطن

لم يعد لبنان بلدًا تستهلكه التفاصيل الصغيرة ولا ساحة تتصارع فيها الطوائف على فتات المكاسب. انتهى زمن التلهّي. ما يعيشه اللبنانيون اليوم هو انهيار وطن بكامله، وليس خلافًا بين فريقين أو زعيمين. وفي هذه اللحظة الدقيقة، يخرج كلام الرئيس نبيه بري والدكتور سمير جعجع ليذكّر الجميع بأن الأزمة لم تعد أزمة مواقف، بل أزمة نظرة إلى معنى الدولة نفسها: هل هي مساحة مشتركة يصونها الجميع، أم شركة خاصة تُدار كصفقة طويلة الأجل؟ هنا تكمن المشكلة الكبرى، وهنا تبدأ الصدمة.

ليس هكذا يُدار وطن. الوطن ليس مقايضة، ولا توازن قوى، ولا التباسًا بين ما هو عام وما هو خاص. الوطن ليس منصة تُستخدم لتثبيت حضور سياسي أو لمراكمة نفوذ على حساب الانهيار. وليس ساحة تُدار فيها الخلافات على طريقة إدارة انتخابات، وكأن مستقبل الملايين مجرد رقم في صندوق أو معركة على مقعد. اللبنانيون لم يعودوا ينتظرون خطابات متقابلة، بل ينتظرون اعترافًا حقيقيًا بأن البلد لم يَعد يحتمل أي منطق يقوم على مصالح ضيقة، سواء غُلّفت بالطائفية أو بعبارات المسؤولية أو بحسابات النفوذ.

بري يتحدث بواقعية رجل يدرك حجم القلق في البلد، لكن هذه الواقعية لم تعد تكفي شعبًا فقد ثقته بكل ما هو ثابت، ولم يعد يرضى بإدارة أزمة عمرها عقود. وجعجع يرفع السقف بخطاب مباشر وصارم، ولكن الصراحة وحدها لا تصنع إنقاذًا إن لم تتحوّل إلى مشروع وطني جامع. الحقيقة المؤلمة أن اللبنانيين باتوا يرون الصراع بينهما — ومعهما — كأنه صراع على ملكية بيتٍ لم يعد قائماً، جدرانه سقطت وسقفه تآكل، والجميع يتجادل على غرفة محروقة.

الصدمة الحقيقية ليست في الكلمات، بل في أن كل طرف ما زال يخاطب جمهوره، لا وطنه. كل طرف يحاول أن يقدّم نفسه حاميًا للبنان، فيما لبنان نفسه بلا حماية، بلا غطاء، بلا منقذين. كيف يمكن لدولة أن تقوم بينما كل طرف يتمسك بروايته، لا بالحقيقة؟ وكيف يمكن لوطن أن ينهض بينما قياداته تتصرّف كأن الزمن لم يتغير، وكأن البلد لم ينهر ماليًا وأخلاقيًا واجتماعيًا وإنسانيًا؟

الأزمة اليوم ليست أزمة خطاب ولا وجهتي نظر. إنها أزمة افتقادٍ كامل لفكرة “المصلحة الوطنية العليا” التي تسبق كل حزب وكل زعيم وكل طائفة. الأزمة أن لبنان أصبح يُدار بعقلية الصناديق المغلقة، لا بعقلية الدولة المفتوحة للجميع. الأزمة أن هذه الأرض، التي كانت رسالة في المنطقة، أصبحت اليوم درسًا مؤلمًا في كيفية سقوط الدول حين يتقدّم السياسيون على الوطن.

لبنان لا يحتاج من يدافع عنه في الإعلام. لا يحتاج من يرفع الصوت أكثر. ولا يحتاج من يُجيد لعبة التوازنات. لبنان يحتاج من يعترف أن المسألة لم تعد من سيكون الأقوى، بل كيف نمنع الكارثة الأكبر. يحتاج من يضع الوطن فوق كل اعتبار… لأن الوطن وحده الباقي، أما السياسيون فهم عابرون.

الصدمة ليست في كلام بري ولا جعجع… الصدمة في أن البلد أصبح أكبر من الجميع، وأصغر من أن يحتمل معاركهم. وإن لم يتغيّر الخطاب ليصبح خطابًا لبنانيًا شاملًا لا خطاب جمهور، فلن يبقى وطن ليتقاتلوا فوقه.