حين تغيب الدولة… يحكم المحتال
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
وحين يغيب الراعي الحقيقي، يظهر المحتال كبديل طبيعي
لم تكن قضيّة “أبو عمر” مجرّد فضيحة احتيال سياسي تصلح للسخرية أو للتندّر. ما انكشف في هذه القضيّة يتجاوز شخصاً انتحل صفة أمير، أو سياسيين صدّقوا وهماً. نحن أمام مرآة قاسية لبنية سياسية مأزومة، لا تزال تعمل بالقواعد نفسها منذ نشأة الكيان اللبناني، وتُعيد إنتاج أزماتها كلما تبدّلت الظروف الإقليمية.
حين يتصدّر خبر حدّاد سيارات عناوين الصحافة العربية والدولية لأنه أقنع سياسيين بأنه بوابة إلى الرياض، لا يعود السؤال: كيف نجح المحتال؟
بل يصبح السؤال الأخطر: أيّ نظام سياسي هذا الذي لا يستطيع العمل إلا عبر الوهم؟
المحتال لم يخترق النظام… بل اشتغل وفق منطقه
أبو عمر” لم يخترق السياسة اللبنانية، ولم يلتفّ على مؤسساتها، لأن هذه المؤسسات عملياً غير موجودة في إنتاج الشرعية. هو استثمر في منطقها الأساسي: منطق الوساطة، والادّعاء بالقرب من مراكز القرار الخارجية.
منذ الاستقلال، لم تُبنَ السياسة اللبنانية على السيادة، بل على تعدّد الرعاة. دمشق في مرحلة، الرياض في مرحلة، واشنطن وباريس في مراحل أخرى. تتبدّل العواصم، لكن القاعدة واحدة:
من لا يملك قناة خارجية، لا يملك وزناً داخلياً.
وحين يتوسّع الفارق بين الطلب على الوساطة والعرض الحقيقي لها، تنشأ حتماً سوق سوداء للنفوذ السياسي، تماماً كما تنشأ سوق سوداء للدولار حين ينهار السعر الرسمي. في هذه السوق، يصبح الوهم سلعة، والادّعاء رأس مال، والفراغ فرصة.
الفراغ السنّي: الجرح المفتوح
تكتسب هذه القضيّة بعدها الأخطر لأنها تكشف، بلا تجميل، أزمة التمثيل السياسي السنّي في لبنان.
هذه الأزمة لم تبدأ مع “أبو عمر”، بل انفجرت بعد انهيار النموذج الذي قام لعقود على راعٍ واحد، وقناة واحدة، ومرجعية واحدة مع المملكة العربية السعودية.
الزعامة السنّية لم تُنتج، تاريخياً، عبر ديناميات داخلية مؤسسية، بل عبر شرعية إقليمية غطّاها نجاح استثنائي. وحين انتهت تلك التجربة، لم يُبنَ البديل، ولم تُدار مرحلة ما بعد الانسحاب، فبقيت الطائفة في فراغ سياسي قاتل.
لا قيادة معترف بها.
لا قناة تواصل واضحة.
لا خطاب يشرح للناس ما الذي تغيّر ولماذا.
في السياسة، الفراغ لا يبقى فارغاً. حين غابت الرعاية، ولم تُستبدل بدعم مؤسّسي للدولة أو بمسار إنتاج قيادة داخلية، بدأ السياسيون السنّة يتعلّقون بحبال الهواء.
لماذا صدّقوا الوهم؟
السؤال الأكثر إحراجاً ليس كيف احتال “أبو عمر”، بل لماذا صدّقه سياسيون لبنانيون يفترض أنهم أصحاب تجربة ونفوذ؟
كيف يُعقل أن يُسلّم القرار والمال والطموح لرجل:
بلا صفة رسمية
بلا صورة واحدة مع مسؤول
بلا قناة علنية
بلا أي دليل سوى هاتف ولهجة؟
الجواب قاسٍ لكنه صادق:
لأن الوهم سدّ فراغاً حقيقياً.
ولأن السياسي اللبناني، بعد قرنين من “ثقافة القناصل”، لا يتخيّل نفسه فاعلاً بلا راعٍ خارجي. هو لا يبحث عن الدولة، بل عن الحماية. لا عن الشرعية الشعبية، بل عن إشارة من عاصمة مؤثرة.
في هذا المعنى، لم يخدع “أبو عمر” السياسيين.
هو، أو من شغّله، قدّم لهم ما أرادوا تصديقه.
مسؤولية السياسة السعودية… بلا مواربة
هنا لا بد من قول ما يُتجنّب قوله:
السياسة السعودية تجاه السنّة في لبنان، خلال السنوات الأخيرة، انسحبت من دون إدارة انسحاب. وهذا خطأ استراتيجي، لا يُعالج بالإنكار ولا بالمجاملات.
هذا ليس هجوماً على السعودية كدولة، بل نقد مباشر لسياسة أثبتت نتائجها. فالدول لا تُقاس بنيّاتها، بل بآثار قراراتها. والفراغ الذي نشأ لم يُنتج دولة لبنانية قوية، بل أنتج سماسرة، وأوهام، وفضائح أضرّت بالجميع، وفي مقدّمهم صورة المملكة نفسها.
السعودية قالت إنها تقف إلى جانب لبنان الدولة، لا لبنان الأشخاص. لكن ترك الساحة بلا مرجعية واضحة، وبلا مسار سياسي بديل، جعل هذه المقولة معلّقة في الهواء، تماماً كالساسة الذين تعلّقوا بوهم القرب منها.
المرض البنيوي… لا العارض
“
أبو عمر” ليس المشكلة.
هو عارض من عوارض مرض أعمق يقوم على ركيزتين لم تسقطا حتى الآن:
نظام طائفي يجعل كل طائفة بحاجة إلى ضامن خارجي
عجز مزمن عن إنتاج شرعية سياسية محلية محمية بالمؤسسات
ما دامت هاتان الركيزتان قائمتين، فإن السؤال ليس: هل سيظهر “أبو عمر” آخر
بل: كم “أبو عمر” يعمل اليوم في الظل، وبأيّ اسم، وباسم أيّ عاصمة؟
لبنان لا ينتج زعماء، لأنه لم يبنِ دولة.
ينتج وسطاء، لأن الوساطة أسهل من السيادة.
وحين يغيب الراعي الحقيقي، ولا تُبنَ الشرعية الداخلية، يظهر المحتال كبديل طبيعي، لا كاستثناء.
هذه ليست فضيحة شخص، بل فضيحة نظام كامل.
وما لم يُكسر هذا المنطق، سيبقى لبنان بلداً ينتظر الخارج ليحكمه، ثم يستغرب لماذا يأتيه الأسوأ.