لبنان: نموذج عالمي لدولة تُدار لا تُحكم

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لبنان: نموذج عالمي لدولة تُدار لا تُحكم

لبنان ليس بلداً تتنازع عليه الدول، بل بلداً يتناوب عليه الموفدون. موفد إيراني يصل حاملاً تصوراً للحل، موفد أميركي يشرح حدود الممكن، موفد فرنسي يقترح تسوية، موفد مصري يسوّق تهدئة، موفد من الاتحاد الأوروبي يذكّر بالشروط، وكلهم يأتون في مواعيد محسوبة، ويغادرون ببيانات منمّقة، فيما البلد نفسه لا يصل إلى أي قرار ولا يغادر أزمته. المشهد يتكرر إلى حدّ الابتذال، وكأن السيادة لم تعد وظيفة دولة بل جدول زيارات.

الأغرب ليس كثرة الموفدين، بل الانقسام الداخلي حولهم. فريق يعتبر استقبالهم حماية للسيادة، وفريق يعتبر رفضهم دفاعاً عنها، وكلا الفريقين يتجاهل الحقيقة البسيطة: الدولة التي لا تستطيع إدارة أزماتها من دون وسطاء خارجيين ليست دولة ذات سيادة، بل دولة عاجزة عن ممارسة سيادتها. هنا، لا يُفرض التدخل بالقوة، بل يُطلب بالحاجة، ولا يأتي الخارج غزواً، بل يُستقبل كمنقذ مؤقت في بلد قرر أن يؤجل إنقاذ نفسه.

في لبنان، القرار الوطني لا يُصنع ثم يُشرح، بل يُنتظر ثم يُبرَّر. تُعقد الاجتماعات، تُرفع السقوف، تُلقى الخطب النارية، ثم يتوقف كل شيء بانتظار الموفد التالي. وحين يصل، ينخفض الخطاب، تتبدل اللهجة، ويُعاد تعريف الثوابت. هكذا تتحول السيادة من ممارسة سياسية إلى مادة خطابية مرنة، تُشدّ أو تُرخى بحسب هوية الزائر.

الأخطر أن هذا النموذج لم يعد استثناءً، بل أصبح نظاماً مستقراً. الخارج لا يفرض حلاً لأن الحل يكلّفه، والداخل لا ينتج حلاً لأنه اعتاد إدارة الفشل. فيلتقي الطرفان على منطقة رمادية مريحة: لا انهيار كامل يفرض التغيير، ولا دولة فاعلة تُنهي الحاجة إلى الوصاية الناعمة. النتيجة بلد معلّق، يُدار لا يُحكم، ويُهدّأ لا يُبنى.

لبنان اليوم ليس حالة فريدة، بل نموذج تحذيري. نموذج لما يحدث عندما تبقى الدولة شكلاً وتغيب مضموناً، عندما تُترك السيادة بلا صاحب، فيتولاها الزوار بالتناوب. وهذا أخطر من الاحتلال، لأن الاحتلال عدو واضح، أما إدارة العجز فهي شراكة صامتة بين الداخل والخارج، يدفع ثمنها مجتمع يُستنزف ببطء ويُقنع نفسه أن هذا هو الحد الأقصى الممكن.

حين يصبح السؤال في بلد ما: متى يصل الموفد؟ لا ماذا نقرر نحن؟ فالمشكلة لم تعد في الموفدين، بل في الدولة التي سلّمت قرارها ثم اختلفت على تفسير السيادة. وحينها، لا يهتز العالم من كثرة الزائرين، بل من صمت صاحب البيت.