الخصومة التي تقتل الجميع: حين أدركت الرياض وطهران أن الصراع السنّي الشيعي لم يعد ورقة رابحة

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

الخصومة التي تقتل الجميع: حين أدركت الرياض وطهران أن الصراع السنّي الشيعي لم يعد ورقة رابحة

في عالمٍ يتغيّر كل يوم، يبدو أنّ الشرق الأوسط بدأ يكتشف أن جراحه ليست قدَرًا، بل صناعة أيدي أبنائه. ومن بين تلك الجراح، يبرز الصراع السنّي  الشيعي كأشدّها نزفًا وأطولها عمرًا.
لكن في الأسابيع الأخيرة، ومع تلاقي إشارات ناعمة من الرياض وطهران، مرورًا ببيروت، برزت حقيقة جديدة:

> هذا الصراع لم يعد يخدم أحدًا. لا السعودية، ولا إيران، ولا حتى أولئك الذين اعتادوا الاصطياد في دمائه.

السعودية، التي دفعت ثمنًا باهظًا من صورتها الإقليمية خلال عقدٍ من الاصطفافات المذهبية، اكتشفت أن بناء القوة لا يمرّ عبر الجبهات الطائفية بل عبر مشاريع الدولة والاقتصاد والابتكار. رؤية 2030 ليست فقط خطة اقتصادية، بل إعلان استراتيجي بأنّ المملكة لم تعد تريد أن تُعرَّف كزعيمة معسكرٍ طائفي، بل كقوة استقرار وتنمية.

ولذلك، لم يكن عبثًا أن يزور السفير السعودي وليد بخاري المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان قبل أيام، في مشهدٍ غير مألوفٍ قبل سنوات قليلة. بخاري قالها بوضوح:

> "لا خصومة للمملكة مع المكوّن الشيعي، لا في لبنان ولا في الخارج."

تلك الجملة الصغيرة كانت بمثابة طلقة الوداع في وجه مرحلة كاملة من سوء الفهم والاصطفاف.

على الضفة الأخرى، إيران التي طالما استخدمت الورقة المذهبية كأداة نفوذ، بدأت تدرك أن فائض القوة يمكن أن يتحوّل عبئًا سياسيًا، وأنّ “الانتصار العقائدي” لا يصنع دولًا بل يدمّرها من الداخل.
العقوبات، والاحتجاجات، وتراجع الحلفاء الإقليميين، جعلت طهران تراجع خطابها. ففي المنطقة اليوم، القوة الذكية تتفوّق على القوة العقائدية، والبراغماتية أصبحت لغة النفوذ الجديدة.

لبنان، الممزّق بين الانتماءات، تحوّل فجأة إلى مرآةٍ لعلاقةٍ جديدة محتملة بين السعودية والمكوّن الشيعي.
حين يصرّح الشيخ علي الخطيب بأنّ “المكوّن الشيعي لم يكن يومًا عامل تفريق، بل عامل وحدة”، فهو لا يخاطب الداخل اللبناني فحسب، بل يرسل إشارة ضمنية لطهران والرياض معًا: كفّوا عن استخدامنا كساحة تصفية حساباتكم.

الدعوة إلى ندوة حول اتفاق الطائف في مقر المجلس الشيعي، بحضور سعودي رسمي، ليست مجرّد نشاط رمزي. إنها لحظة سياسية مشحونة بالمعاني:

إعادة الطائف إلى الواجهة بوصفه وثيقة شراكة لا وثيقة غلبة.

إعادة المكوّن الشيعي إلى قلب الدولة، لا على هامشها.

إعادة التواصل السعودي-الشيعي إلى مربع الدولة بدل مربع الصراع.


التحولات الجارية في المنطقة تقول شيئًا واحدًا:

> منطق الطائفية انتهى، لكن الطبقة السياسية لم تستوعب بعد أن الشارع تغيّر.

الشباب السنّي والشيعي اليوم، في بغداد أو بيروت أو القطيف أو طهران، يتحدثون لغة العمل والكرامة والعيش، لا لغة العصبية والولاء.
الناس تعبوا من أن يكونوا أدوات في معارك لا يفهمون نهاياتها.
لقد وُلد جيل جديد لا يهمّه مَن انتصر في صفين، بل مَن سيُصلح الكهرباء والاقتصاد.

حين تفتح الرياض أبوابها لطهران في بكين، وحين يرسل السفير السعودي إشارات ودّ إلى الشيعة في لبنان، وحين تخفف طهران من لهجة تصدير الثورة، فالعالم يدرك أن الشرق الأوسط يتجه إلى مرحلة “ما بعد الانقسام”.
إنه ليس حبًا في بعضهم البعض، بل إدراكًا واقعيًا أن الخصومة لم تعد تُربح أحدًا.

النفط لا يُصدَّر عبر الانقسام، ولا الأسواق تُفتح عبر الكراهية، ولا النفوذ يُبنى على الرماد.

 الأوسط يُعيد تعريف نفسه

لقد آن الأوان أن نعترف أن الصراع السنّي الشيعي كان أكبر خدعةٍ استراتيجية في تاريخ المنطقة الحديثة.
كلّ من ظنّ أنه سيربح منه، خسر أكثر مما كسب.
السعودية فهمت، وإيران أدركت، ولبنان بدأ يهمس:

> “كفى. نريد دولةً لا مذهبًا، وكرامةً لا وصاية، ومستقبلًا لا ماضٍ.”

حين تلتقي الرياض وطهران على فكرة أن استقرار المنطقة أثمن من انتصار أي محور، سيُكتب تاريخ جديد،
تاريخٌ لا يُقاس بعدد المذاهب المنتصرة، بل بعدد الشعوب التي نجت.