ساعات حاسمة في مصير لبنان: إنذارات الحرب تسبق السياسة
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
لا تبدو الساعات الأخيرة مجرد فصل جديد من فصول التوتر التقليدي بين لبنان وإسرائيل، بل أقرب إلى سباق محموم مع الزمن، حيث تتقدم لغة الإنذارات العسكرية بسرعة، فيما تحاول الدبلوماسية اللحاق بها قبل فوات الأوان. المشهد قاتم، لا لأن التصعيد حتمي، بل لأن الأخطاء باتت أسرع من أدوات احتوائها.
إسرائيل عادت بوضوح إلى استخدام لغة الإنذارات الميدانية، وهي لغة لا تُستعمل عادة لردع الخصم بقدر ما تُستخدم لتبرير ما سيأتي بعد ذلك. فالإنذار ليس رسالة تهدئة، بل خطوة تمهيدية تُبنى عليها شرعية أي ضربة مقبلة. في المقابل، يطل الخطاب الصادر عن قيادة “حزب الله” وكأنه منفصل عن السياق الإقليمي والدولي الراهن؛ خطاب جامد، مكرور، ينتمي إلى مرحلة سابقة، ويتجاهل التحولات العميقة التي طرأت على موازين القوى وعلى هوامش الحركة السياسية والعسكرية في المنطقة.
بين هذين المسارين، يجد لبنان نفسه محشوراً في معادلة خانقة: مطرقة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، وسندان مواقف إنكارية متصلبة تمنح تل أبيب، من حيث لا تدري أو تدري، ذرائع إضافية لتوسيع دائرة الضغط. الدولة اللبنانية، الغائبة عملياً عن قرار الحرب والسلم، تقترب أكثر فأكثر من موقع المتفرج القَلِق على مسرح تُدار أحداثه من خارج حدودها.
لكن في موازاة هذا التصعيد، يتحرك مسار دبلوماسي متعدد الأطراف وكأنه يدرك متأخراً خطورة اللحظة. القاهرة تدخل مجدداً على الخط، عبر زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى بيروت، استكمالاً لتحركات بدأها وزير الخارجية ومدير المخابرات، في محاولة لفرملة اندفاعة إسرائيلية باتت أكثر وضوحاً. باريس تجمع على طاولة واحدة موفدين أميركيين وفرنسيين وسعوديين، إلى جانب قائد الجيش اللبناني، حيث يُعاد فتح ملفات شديدة الحساسية، في مقدّمها حصر السلاح والتحضير لمؤتمر دعم الجيش.
وفي الجنوب، يُفترض أن تنعقد لجنة “الميكانيزم” في الناقورة، برئاسة دبلوماسية لبنانية هذه المرة، في إشارة إضافية إلى أن ما يجري لم يعد تقنياً ولا عسكرياً فحسب، بل دخل مرحلة التفاوض السياسي المقنّع. غير أن كل هذه المسارات تبدو وكأنها تسابق ساعة الرمل، لا تتحكم بها.
العامل الأكثر دلالة في هذا المشهد يتمثل في الإعلان عن زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك إلى إسرائيل، تحت عنوان “منع التصعيد في سوريا ولبنان”. هذه الزيارة لا تعكس ثقة أميركية بالمسار القائم، بل على العكس، تعبّر عن خشية حقيقية من انفلات قد لا تنجح الدبلوماسية التقليدية في احتوائه. عندما يتحرك المبعوث الأميركي بهذا التوقيت، فهذا يعني أن النافذة تضيق، وأن الخيارات تُعاد مراجعتها على عجل.
خطورة اللحظة لا تكمن فقط في التهديدات العسكرية، بل في التوازي القاتل بين التصعيد الخارجي والشلل الداخلي. ففي الداخل اللبناني، ينفجر المشهد السياسي – الانتخابي على وقع سجالات حادة حول احترام الدستور والمهل القانونية، في وقت تبدو فيه البلاد أحوج ما تكون إلى حد أدنى من التماسك السياسي. هذا التداخل بين أزمة سيادية وأزمة نظام سياسي يزيد من هشاشة الوضع، ويجعل أي اهتزاز أمني أكثر كلفة وأوسع أثراً.
لبنان اليوم لا يقف على حافة حرب فقط، بل على حافة اختبار وجودي للدولة: هل تستطيع الإمساك بزمام قرارها؟ هل تملك القدرة على منع تحويل أرضها إلى ساحة رسائل إقليمية؟ وهل يدرك اللاعبون المحليون أن التمسك بخطابات الماضي قد يقود إلى خسائر لا يمكن احتواؤها؟
ما يجري ليس مجرد تصعيد عابر، بل مرحلة انتقالية خطيرة، قد تفضي إما إلى إعادة ضبط قواعد الاشتباك، أو إلى انزلاق واسع تُفتح فيه أبواب يصعب إغلاقها. بين الإنذارات الإسرائيلية والدبلوماسية المتأخرة، يقف لبنان أمام لحظة لا تحتمل الإنكار ولا الشعارات، بل تحتاج إلى قراءة باردة للواقع، وإلى قرارات شجاعة قبل أن يفرض الآخرون قراراتهم عليه.
-