ما بعد جولة السفراء: هل تغيّر شيء فعلًا في معادلة الجنوب؟
بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري
في لحظة إقليمية تتكاثف فيها النيران من غزة إلى البحر الأحمر، يقف لبنان مرة أخرى على حافة السؤال الأخطر:
من يقرّر الحرب؟ ومن يملك السلام؟
التحركات الدبلوماسية المتسارعة، وعلى رأسها الجهد الفرنسي المتجدد، لا تعكس فقط قلقًا دوليًا من انفجار الجبهة الجنوبية، بل تكشف عن تحوّل أعمق: محاولة إعادة هندسة الواقع اللبناني من بوابة الأمن، لا السياسة.
لم تكن جولة السفراء العرب والأجانب جنوب الليطاني حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل رسالة سياسية مكتملة الأركان. الرسالة لم تُوجَّه إلى إسرائيل وحدها، بل إلى الداخل اللبناني قبل الخارج:
لكن السؤال الذي يتجاهله كثيرون عمدًا:
هل ما جرى هو تثبيت لسيادة الدولة، أم توظيف للجيش في معركة سرديات دولية؟
تتقدم باريس مجددًا إلى واجهة المشهد، لا كوسيط محايد فحسب، بل كـ مُدير إقليمي للأزمة اللبنانية. خطابها يبدو عقلانيًا، لغته ناعمة، ومفرداته دبلوماسية. غير أن جوهره يحمل افتراضًا خطيرًا:
أن الاستقرار في لبنان لا يُصنع بتوازناته الداخلية، بل بإعادة ضبطه وفق مقاييس الخارج.
فرنسا لا تخشى الحرب فقط، بل تخشى ما بعدها:
لبنان خارج السيطرة، خارج التسويات، وخارج القدرة على الاحتواء.
في المقابل، يواجه حزب الله لحظة غير مسبوقة في تاريخه.
للمرة الأولى، لا يُناقش سلاحه من زاوية الصراع مع إسرائيل، بل من زاوية وظيفته داخل الدولة.
الخطير في المشهد ليس الدعوة إلى نزع السلاح بحد ذاتها، بل تحويلها إلى مسألة تقنية وأمنية، وكأنها منفصلة عن السياسة، وعن الطائف، وعن تاريخ الصراع، وعن البيئة التي أنتجتها.
القول إن سلاح حزب الله بات بلا وظيفة دفاعية، أو أن شرعيته تتآكل تلقائيًا، هو تبسيط متعمّد. لكن في المقابل، تجاهل أن هذا السلاح بات عبئًا على الدولة، ومصدر قلق داخلي وخارجي، هو إنكار لا يقل خطورة.
أخطر ما في الخطاب المتداول اليوم، هو الحديث عن “تحوّل وشيك” في المزاج الشيعي.
فالطائفة التي خبرت التهميش والحروب والخذلان، لا تنتقل من خيار إلى آخر ببيانات دبلوماسية أو جولات سفراء.
الأمان لا يُفرض بالشعارات، ولا يُبنى بالرهانات الخارجية.
وأي محاولة لفصل الطائفة عن هواجسها الأمنية دون مشروع دولة حقيقي، ستكون مقامرة مكلفة.
المفارقة الكبرى أن إسرائيل، الطرف الأكثر عدوانية في المعادلة، تكاد تغيب عن النقاش كفاعل مسؤول.
يُختزل التصعيد وكأنه نتيجة خلل لبناني داخلي، لا سياسة توسعية إسرائيلية قائمة على اختبار الحدود والفرص.
وهنا تكمن الخديعة الكبرى:
حين يصبح ضبط لبنان أولوية، بينما يُمنح التصعيد الإسرائيلي غطاء الصمت.
لبنان اليوم ليس أمام خيار الحرب أو السلام، بل أمام خيار أخطر:
إما دولة تُبنى بتسوية داخلية شجاعة، تعترف بالوقائع وتعيد تنظيمها،
أو دولة تُدار بالضغط الخارجي، وتُنزَع منها عناصر القوة دون بدائل حقيقية.
الجنوب ليس ساحة رسائل فقط،
ولا الجيش أداة إثبات،
ولا الدبلوماسية بديلًا عن السياسة.
ما يجري اليوم هو اختبار نهائي لفكرة لبنان نفسها:
هل هو دولة تُنتج قرارها؟
أم ساحة تُدار كلما اقتربت الحرب… ثم تُنسى بعد أن تنجو؟