عندما يصبح منع الاستعمال بديلاً عن نزع السلاح

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

عندما يصبح منع الاستعمال بديلاً عن نزع السلاح

ليس جديدًا على لبنان أن تتحوّل أزماته المصيرية إلى مواضيع لغوية، ولا أن يُستعاض عن القرارات السيادية بتعابير دبلوماسية رمادية، تُجمّل العجز وتؤجّل الانفجار. الجديد هذه المرّة أن هذا المنطق، الذي أتقنه اللبنانيون حدّ الإدمان، بات يُستعاد على لسان مبعوث أميركي، يفترض به أن يمثّل دولة تعرف تمامًا الفرق بين الدولة واللادولة.

حين يقول المبعوث الأميركي إلى لبنان وسوريا، توم برّاك، إن «نزع سلاح حزب الله ليس ضروريًا، بل الأهم منعه من استعماله»، فهو لا يطلق رأيًا عابرًا، ولا زلّة لسان. هو يعيد تعريف المشكلة اللبنانية من جذورها، ويختصرها بجملة واحدة: المطلوب إدارة السلاح لا إنهاءه، وضبط اتجاهه لا مصادرته.

بهذا المعنى، لم يعد السلاح مشكلة بحد ذاته، بل يصبح كذلك فقط عندما يُوجَّه خارج المسار المسموح به دوليًا. أما داخل لبنان، فالسؤال يُرحَّل، ويُلفّ، ويُترك لموازين القوة.

هذه ليست مقاربة جديدة، بل هي النسخة الدولية من سياسة لبنانية قديمة اسمها «تدوير الزوايا». الجديد أن تصدر هذه الفلسفة عن عاصمة كبرى، لطالما قدّمت نفسها راعية لمفهوم الدولة، وحامية لمبدأ احتكار العنف الشرعي.

الأخطر في هذا الطرح أنه يفصل بين السلاح والسيادة، وكأن السيادة يمكن أن تُجزّأ، أو تُقاس جغرافيًا، أو تُعلّق شمال الليطاني وتُفعّل جنوبه. كأن الدولة يمكن أن تكون دولة في مكان، وتسوية في مكان آخر.

السؤال الذي لا يُطرح صراحة، لكنه حاضر بقوة، هو:

هل المطلوب نزع سلاح حزب الله؟ أم فقط تعطيله حين يهدد إسرائيل، وتركه فاعلًا حين يتعلّق الداخل اللبناني بنفسه؟

في هذه المنطقة الرمادية يكمن الخطر الحقيقي. فالسلاح الذي يُضبط خارجيًا ويُترك داخليًا، لا يعود أداة مقاومة ولا ورقة ردع، بل يتحوّل إلى ميزان قوى داخلي دائم، يمنع قيام دولة فعلية، ويُبقي المجتمع في حالة خوف سياسي مستدام.

الحديث عن «الخمول الاستراتيجي» شمال الليطاني ليس سوى محاولة لغوية أخرى لتسمية الفراغ. الخمول لا يبني دولة، ولا ينزع سلاحًا، ولا يمنع حربًا أهلية محتملة. هو فقط يجمّد المشكلة، ويتركها تتخمّر بهدوء.

تجربة اللبنانيين مع السلاح غير الشرعي ليست نظرية. السابع من أيار 2007 ليس حدثًا في كتاب التاريخ، بل جرحًا مفتوحًا في الوعي الجماعي. كل نقاش يتجاهل هذه الحقيقة، أو يتجاوزها ببرود تقني، هو نقاش منفصل عن الواقع.

وحين يُقال إن تصريحات توم برّاك لا تعبّر عن الموقف الرسمي للإدارة الأميركية، فهذا قد يكون صحيحًا من الناحية الشكلية، لكنه لا يلغي حقيقة أخرى أكثر إزعاجًا: أن المزاج الدولي العام بات يميل إلى إدارة الأزمات بدل حلّها، وإلى التعايش مع اللادولة بدل فرض منطق الدولة.

لبنان اليوم لا يُعامل كمشروع دولة يجب إنقاذها، بل كملف يجب ضبط إيقاعه. المهم ألّا ينفجر في التوقيت الخطأ، وألّا يربك أولويات أكبر منه. أما سيادته، فباتت تفصيلًا تفاوضيًا، لا مبدأً غير قابل للنقاش.

المأساة اللبنانية لم تعد فقط في وجود سلاح خارج الدولة، بل في قبول هذا الواقع دوليًا، وتغليفه بمصطلحات ناعمة، وكأن المشكلة لغوية لا سياسية، تقنية لا وجودية.

لبنان لا يحتاج إلى «فهلوة» جديدة، ولا إلى توصيفات مبتكرة للأزمة. يحتاج إلى موقف واضح يقول إن الدولة لا تقوم بنصف سيادة، ولا بسلاح يُدار بدل أن يُنزع، ولا بعنف يُسمح به هنا ويُمنع هناك.

كل ما عدا ذلك، ليس حلًا، بل إدارة لانهيار مؤجّل.