لبنان على مقاس جعجع: عندما تتحوّل الدولة إلى شرط سياسي
بقلم هئية التحرير خاص مراسل نيوز
ليست المشكلة في ما قاله سمير جعجع أخيراً، بل في ما يفترضه ضمناً. فخطابه، الذي بدا ظاهرياً دفاعاً عن الدستور والمؤسسات، يخفي في عمقه تصوراً خطيراً للدولة: دولة تعمل فقط عندما تنتج النتائج التي يريدها، وتتوقّف عندما لا تفعل.
هذا ليس اعتراضاً سياسياً، بل مشروع إدارة انتقائية للشرعية.
اتهم جعجع الرؤساء الثلاثة بـ«التواطؤ» لأنهم أمّنوا نصاب جلسة نيابية. هنا تحديداً تنقلب المعادلة:
في أي نظام ديمقراطي، تأمين النصاب ليس جريمة بل واجب. الجريمة هي تعطيل المؤسسات وتحويلها إلى رهينة ميزان القوى. لكن جعجع، من حيث يدري أو لا يدري، يطرح معياراً جديداً:
> الجلسة شرعية فقط إذا أنتجت ما أريده.
بهذا المنطق، لا يعود البرلمان سلطة مستقلة، بل أداة سياسية مشروطة.
الدستور كسلاح… لا كمرجعية
يكثر جعجع من الاستشهاد بالدستور حين يخدم موقفه، ويتجاهله حين يقيّده. يعترض على “طريقة إدارة المجلس”، لكنه لا يعترض على تعطيله الكامل عندما لا تتناسب مخرجاته مع حساباته. يهاجم “السلطة المطلقة” لرئيس المجلس، لكنه لا يقدّم آلية دستورية بديلة، بل يكتفي بالتعطيل والضغط السياسي.
الدستور، في هذا الخطاب، ليس إطاراً ناظماً بل ورقة تفاوض.
الترويكا: اتهام يُخفي رغبة بالتحكّم
استحضار “الترويكا” ليس بريئاً. هو محاولة لشيطنة أي توافق سياسي لا يكون جعجع طرفاً مقرّراً فيه. المفارقة أن جعجع لا يرفض منطق التفاهم بحد ذاته، بل يرفض أن يتم من دونه أو من دون شروطه. وهنا يتكشّف جوهر الخطاب:
المشكلة ليست في إدارة جماعية للسلطة، بل في إدارة لا تخضع لفيتو سياسي مسبق.
نواف سلام… عندما يصبح الحضور خطيئة
الانتقاد المبطّن لرئيس الحكومة نواف سلام يكشف سقف التوقّعات الحقيقي لدى جعجع. فسلام، الذي حضر الجلسة بصفته الدستورية، وُضع في خانة “الخذلان” فقط لأنه لم يتصرّف كحليف سياسي. الرسالة واضحة:
حتى من يُفترض أنهم “مستقلون” يجب أن يصطفّوا، أو يُحاسَبوا.
هذه ليست دولة مؤسسات، بل دولة اصطفافات مقنّعة.
المغتربون: حق أم أداة؟
الدفاع عن حقوق المغتربين محقّ من حيث المبدأ، لكنه يصبح إشكالياً حين يتحوّل إلى ورقة ضغط ضد الدولة نفسها. الدعوة إلى قدومهم للتصويت في لبنان ليست حلاً، بل اعتراف بأن المعركة تُدار خارج الأطر المؤسسية. وكأن جعجع يقول: إذا لم تتغيّر القواعد، نكسرها.
وهنا مكمن الخطورة:
من يطالب بدولة قوية، لا يشجّع على تجاوزها.
ماذا يريد جعجع فعلياً؟
لا يريد جعجع إسقاط النظام، ولا إصلاحه جذرياً. هو يريد إدارته بشروط جديدة، يكون فيها التعطيل مشروعاً، والمؤسسات مشروطة، والدستور قابل للتفسير السياسي. يريد دولة تعمل… عندما توافقه، وتتجمّد عندما لا تفعل.
هذا ليس مشروع سيادة، بل مشروع تحكّم.
في السياسة، أخطر من الفساد هو الاقتناع بأنك وحدك تمثّل الصواب. وعندما يصبح لبنان رهينة هذا الاقتناع، لا يعود السؤال من يحكم، بل كيف يُحكم البلد وعلى مقاس من.