لبنان بين الولاء لطهران والانتماء للوطن: هل خسر الشيعة هويتهم اللبنانية؟

بقلم الكاتب و الباحث السياسي عبد الحميد عجم

لبنان بين الولاء لطهران والانتماء للوطن: هل خسر الشيعة هويتهم اللبنانية؟

تتوالى المشاهد السياسية في لبنان لتؤكد حقيقة لم تعد خافية على أحد: العلاقة العضوية بين حزب الله وإيران لم تعد مجرد تحالف استراتيجي، بل تحولت إلى حالة اندماجية تفرض معادلات جديدة في الداخل اللبناني. لا شك أن طهران كانت اللاعب الأساسي في رسم ملامح المشهد خلال التشييع الأخير، محاولةً إرسال رسالة واضحة بأن نفوذها الإقليمي لا يزال قوياً، وأن حزب الله—ذراعها الأبرز في المنطقة—لم يفقد القدرة على فرض إيقاعه السياسي رغم الضربات العسكرية والخسائر المتلاحقة.

غير أن ما كان ملفتاً هذه المرة، هو مدى توسع دائرة الارتباط العقائدي والسياسي بطهران داخل الطائفة الشيعية اللبنانية. لم يعد الأمر يقتصر على الحزب كوحدة سياسية مسلحة، بل أصبح جزءاً من البنية الذهنية والاجتماعية لشريحة واسعة من اللبنانيين الشيعة، بعد عقود من التعبئة التي جعلت الولاء للمرشد الإيراني جزءاً من العقيدة الدينية والسياسية. المشهد بدا وكأن لبنان ينهار في ثنائية متناقضة بين مشروع وطني مأزوم وبين مشروع مذهبي يتوسع على حساب الهوية اللبنانية الجامعة.

أحد أبرز التحولات التي ظهرت بوضوح هو انفصال الهوية السياسية للطائفة الشيعية عن الهوية الوطنية اللبنانية، حيث بات التفاعل الاجتماعي والسياسي لهذه الفئة يختلف بشكل جوهري عن بقية المكونات اللبنانية. المشهد لم يكن مجرد تباين مذهبي أو سياسي، بل عكس تحولاً عميقاً في الولاءات، حيث بات الانتماء إلى "الأمة الشيعية" وفق الرؤية الإيرانية يتقدم على الانتماء إلى لبنان ككيان ودولة.

هذا الانقسام لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة تراكمات طويلة فرضتها سياسات الحزب القائمة على تعزيز الهوية العقائدية المذهبية على حساب الهوية الوطنية، مستفيداً من غياب استراتيجية وطنية مضادة تعيد التوازن وتستعيد جمهور الشيعة من قبضة المشروع الإيراني. لقد تم تكريس هذا الواقع عبر تعميق الهوة بين الشيعة اللبنانيين وبقية المكونات، مما خلق حالة من العزلة المجتمعية والسياسية، ظهرت جلياً في تباين المواقف تجاه القضايا الوطنية والمصيرية

في ظل هذا الواقع، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بإدانة سلوك حزب الله أو تحميله المسؤولية وحده، بل أصبح من الضروري إعادة بناء استراتيجية وطنية شاملة تهدف إلى استعادة الشيعة اللبنانيين إلى حضن الدولة. هذه المهمة لن تتحقق إلا عبر إعادة تفعيل دور المؤسسات الدستورية والأمنية والقضائية في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وكسر احتكار الحزب للخدمات والتمثيل السياسي.

إضافةً إلى ذلك، يبقى الدور الأساسي على عاتق المرجعيات الدينية الشيعية المستقلة عن النفوذ الإيراني، خصوصاً التيارات المتبنية للفكر النجفي العربي، والتي لا ترى في "ولاية الفقيه" مبدأً دينياً ملزماً. فبدون خطاب ديني عقلاني يواجه الدعاية الإيرانية، ستبقى أي محاولة لإعادة التوازن مجرد إجراءات شكلية لن تحدث فرقاً جوهرياً في المعادلة السياسية والاجتماعية.

ما يحدث اليوم هو معركة وجودية بين مشروع الدولة اللبنانية، الذي يعاني من ضعف وتشرذم، وبين مشروع عقائدي إقليمي يسعى لتحويل لبنان إلى منصة صراع لخدمة أهدافه الخارجية. لا يمكن إنكار أن حزب الله لا يزال يملك قاعدة شعبية واسعة، لكن هذه القاعدة ليست بالضرورة معزولة عن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب لبنان. في ظل الأزمة المعيشية والانهيار المالي، بدأت شرائح داخل البيئة الشيعية تتململ من واقع احتكار القرار واستغلال الطائفة كأداة سياسية.

المواجهة اليوم لم تعد بين حزب الله وخصومه السياسيين، بل بين هوية لبنانية وطنية تتعرض للتآكل، وبين مشروع مذهبي يتوسع على أنقاضها. من هنا، فإن استعادة القرار اللبناني من براثن الهيمنة الإيرانية لا يتطلب فقط مواجهات سياسية، بل بناء مشروع وطني بديل قادر على تقديم رؤية جامعة تستوعب جميع اللبنانيين، بمن فيهم الشيعة الذين لا يزال كثيرون منهم يرون في الدولة وطناً رغم كل شيء.

المعركة المقبلة لن تكون فقط سياسية أو أمنية، بل هي معركة هوية وانتماء. هل سيتمكن لبنان من استعادة نفسه كدولة مستقلة بقرار وطني، أم سيبقى رهينة مشروع إقليمي يعمل على تفكيكه من الداخل؟ الإجابة عن هذا السؤال تتوقف على قدرة القوى الوطنية على بناء مشروع جذري، يضع المصلحة اللبنانية فوق أي اعتبار مذهبي أو إقليمي.