فقاعة الوعي: السوشيال ميديا أخطر سلاح ضد الإنسان

بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

فقاعة الوعي: السوشيال ميديا أخطر سلاح ضد الإنسان

‎لم تعد منصات التواصل الاجتماعي مجرد وسائل للترفيه أو قنوات للتواصل بين الأصدقاء والأهل. لقد تحولت إلى أخطر مختبر بشري مفتوح، تتحكم فيه خوارزميات لا ترى فينا سوى بيانات، وتحوّل وعينا الجماعي إلى سلعة تُباع وتشترى، وتُستخدم في معارك النفوذ والسياسة والاقتصاد.

 

‎في البداية، وُعدنا بأن هذه المنصات ستجعل العالم قرية صغيرة، تكسر الحدود وتقرّب البشر. لكن ما الذي حدث؟ صارت القرية مجرد ساحة فوضى. الحقيقة تُدفن تحت جبل من الأخبار الكاذبة، والجدل العاقل يُغرقه ضجيج التفاهة، وأصبح مقياس الصواب ليس قوة الحجة، بل عدد الإعجابات والمشاركات. كلما كان الصوت أكثر تطرفًا وجهلاً، كلما صعد أكثر في قائمة التريند.

‎تقوم هذه المنصات على تجارة الانتباه: كل ثانية نقضيها أمام الشاشة تعني مالًا يدخل جيوب الشركات العملاقة. لذلك، لا يهم إن كان المحتوى يرفع الوعي أو يدمّر العقول؛ المهم أن يبقينا ملتصقين بالشاشة. ولهذا تدفع الخوارزميات أكثر نحو ما يثير الغضب والخوف والفضائح، لأنها تدوم أطول وتُشارك أكثر. النتيجة: شعوب غاضبة، مجتمعات منقسمة، وأفراد يعيشون في توتر دائم.

‎أثبتت الدراسات أن الاستخدام المفرط للسوشيال ميديا يضاعف القلق والاكتئاب ويزيد من مشاعر العزلة، حتى وسط الازدحام الرقمي. الأجيال الجديدة تنشأ على وهم "اللايك" و"المتابع" بدلاً من القيمة الحقيقية للعمل والجهد. صار الانتحار بين المراهقين مرتبطًا مباشرة بضغط المقارنة المستمرة، والتنمر الإلكتروني بات سلاحًا يوميًا يحصد ضحايا بصمت.

 

‎في العالم العربي، خطورة السوشيال ميديا مضاعفة. هنا تتحول إلى ساحات صراع مذهبي وطائفي، وتُستغل لتأجيج الفتن وتوجيه الرأي العام. بدل أن تكون مساحة للنقاش الحر، أصبحت منابر للتخوين والتشهير والاغتيال المعنوي. الأنظمة والجماعات على حد سواء تستخدمها كأداة لتجييش الجماهير، بينما يضيع ملايين الشباب في دوامة من الترفيه الرخيص والتفاهة المستوردة.

‎إذا كانت أزمة 1929 دمّرت الاقتصاد بسبب "فقاعة الأسهم"، فإن السوشيال ميديا اليوم تدمّر العقول عبر "فقاعة الوعي". انهيار الأسواق يمكن أن يُعالج، لكن انهيار المعنى وطمس الحقيقة واغتيال التفكير النقدي أخطر بما لا يقاس. هنا لا نخسر أموالنا فقط، بل نخسر عقولنا وهويتنا ومستقبل أجيال كاملة.

 

‎فما العمل؟

‎الانسحاب الكامل قد يبدو خيارًا، لكن الحل الجذري أعمق: نحتاج إلى وعي رقمي جديد، إلى ثقافة مقاومة للخوارزميات، إلى إعلام بديل يصنع المعنى بدلاً من أن يستهلكه. نحن أمام معركة وجودية: إما أن نعيد السيطرة على أدواتنا الرقمية، أو نستيقظ ذات يوم لنجد أنفسنا مجرد "قطيع إلكتروني" يساق حيث يريد الآخرون.

‎السوشيال ميديا ليست مجرد تطبيق على هاتفك، إنها أخطر سلاح نفسي ومعنوي في التاريخ. والسؤال الذي يجب أن نهز به ضمائرنا: هل نملك هذا السلاح… أم يملكنا هو؟