بريطانيا على خط النار: اعتراف بدولة فلسطين يغيّر قواعد اللعبة
بقلم هيئة التحرير مراسل نيوز

في التاسع من سبتمبر 2025، ستتجه أنظار العالم إلى نيويورك حيث تنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن ما يشغل الكواليس السياسية ليس جدول أعمال الأمم المتحدة بقدر ما هو قرارٌ بريطاني يوشك أن يُعلن: الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين. قرارٌ لا يقتصر على الرمزية الدبلوماسية، بل يهدّد بكسر معادلات عمرها عقود في الشرق الأوسط، ويضع لندن في قلب عاصفة لا تهدأ.
أوروبا تغيّر اللغة: من البيانات إلى الأفعال
منذ سنوات، اعتادت العواصم الأوروبية إصدار بيانات قلق ودعوات هزيلة إلى “استئناف المفاوضات”. اليوم، تتحرك بريطانيا ومعها فرنسا وبلجيكا ودول أخرى نحو ما يُعرف بـ“القرار الأوروبي المتماسك”: اعتراف متتابع بفلسطين، لا كهديّة رمزية، بل كأداة ضغط سياسية تهدف إلى إحياء حل الدولتين بالقوة الدبلوماسية.
لندن تدرك أن هذه الخطوة اختبارٌ لمصداقيتها: إما أن تكون لاعبًا يصوغ القرارات أو تابعًا يلهث خلف باريس وبرلين. لهذا قررت حكومة كير ستارمر أن اللحظة قد حانت.
إسرائيل ترد بالضم: معركة وجود لا معركة حدود
ردّ تل أبيب لم يتأخر. تسريبات من داخل حكومة بنيامين نتنياهو تتحدث عن خرائط ضم جديدة في الضفة الغربية كـ“إجراء انتقامي” على الاعتراف الأوروبي. هذا ليس مجرد تكتيك انتخابي؛ إنه تحدٍ مباشر للقانون الدولي ورسالة واضحة: إسرائيل لن تتراجع، بل ستُصعّد. وهنا يكمن جوهر اللحظة: أوروبا تراهن على الشرعية الدولية، بينما تراهن إسرائيل على الواقع بالقوة. والنتيجة مواجهة محتومة بين دبلوماسية الاعتراف وسياسة الضم.
واشنطن: الضوء الأصفر الذي قد ينقلب أحمر
بريطانيا لم تذهب وحدها إلى هذا الطريق من دون استشارة البيت الأبيض. ستارمر ناقش خطته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي لم يعترض علنًا. لكن الصمت الأمريكي ليس ضمانة؛ بل قنبلة موقوتة. فالإدارة الأمريكية، التي يقود سياستها الخارجية ماركو روبيو، ترسل إشارات متشددة تجاه الفلسطينيين، بما في ذلك التضييق على وفودهم إلى نيويورك. أي خطوة أمريكية لاحقة تعترف بالسيادة الإسرائيلية على المستوطنات قد تحوّل الاعتراف البريطاني إلى مقامرة سياسية عالية الكلفة، تُهدّد “العلاقة الخاصة” بين لندن وواشنطن.
غزة: الدم يسبق الدبلوماسية
بعيدًا عن الكواليس، يظل المشهد الإنساني هو الأكثر إلحاحًا. وزير الخارجية ديفيد لامي وصف ما يحدث في غزة بأنه “كارثة من صنع الإنسان”. أرقام الأمم المتحدة تنذر بمجاعة وشيكة، فيما أعلنت لندن رزم دعم إضافية للنساء الحوامل والأطفال. هذا البُعد الإنساني ليس تفصيلًا ثانويًا؛ إنه الوقود الأخلاقي الذي تستخدمه أوروبا لتبرير خطواتها السياسية، ولإحراج إسرائيل أمام الرأي العام العالمي. الاعتراف بفلسطين في هذا السياق لم يعد ترفًا دبلوماسيًا، بل ردًا على أزمة إنسانية متفجرة.
بين القانون والسياسة: بريطانيا تختبر نفسها
خصوم الاعتراف في البرلمان البريطاني يجادلون بأن فلسطين لا تستوفي “معايير الدولة” وفق اتفاقية مونتفيديو. لكن الحقيقة أن الاعتراف في بريطانيا قرار سياسي بامتياز، من صلاحيات الحكومة التنفيذية. لذلك فإن السجال القانوني ليس إلا ستارًا يخفي جوهر المعركة: هل تملك لندن الشجاعة لتحدي تل أبيب وواشنطن، أم تكتفي بترديد شعارات العدالة من بعيد؟
لحظة مفصلية… للعالم كله
المسألة إذن تتجاوز فلسطين. نحن أمام لحظة تختبر مستقبل أوروبا في الشرق الأوسط، ومكانة بريطانيا كقوة عظمى تبحث عن دور بعد بريكست، وصدقية القانون الدولي الذي تآكل تحت وطأة الحروب والاستيطان. إذا مضت لندن وباريس ومعهما عواصم أوروبية أخرى في الاعتراف، فإن ميزان القوى الدبلوماسي سيتغيّر جذريًا:
فلسطين تكتسب شرعية أوسع في المحافل الدولية.
إسرائيل تواجه عزلة متنامية وقيودًا سياسية واقتصادية محتملة.
الولايات المتحدة تجد نفسها بين شريكها الأوروبي وضغوط قاعدتها المؤيدة لإسرائيل.
ما يجري اليوم ليس نقاشًا تقنيًا حول الاعتراف، بل معركة على معنى العدالة الدولية. إما أن يبقى القانون الدولي نصًا في الكتب، أو يتحول إلى أداة حقيقية تفرض على الأقوياء حسابًا أمام العالم.
سبتمبر 2025 قد يكون الشهر الذي تغيّرت فيه قواعد اللعبة: أوروبا انتقلت من الكلام إلى الفعل، وإسرائيل ردّت بالتصعيد، وأمريكا ترددت بين الضوء الأخضر والأحمر.
والسؤال الذي سيظل يطارد العواصم: هل الاعتراف بدولة فلسطين بداية حل سياسي… أم شرارة لصدام أكبر يعيد رسم الشرق الأوسط من جديد؟