إذا انتهت الجبهة… فلماذا تبقى البندقية؟ لبنان يقترب من السؤال الممنوع

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

إذا انتهت الجبهة… فلماذا تبقى البندقية؟ لبنان يقترب من السؤال الممنوع

في لبنان الذي يتأرجح على حافة الانهيار الشامل، تتقدّم إلى الواجهة حقيقة واحدة لم يعد بالإمكان الهروب منها: إذا أعلن حزب الله وقف أي عمل عسكري ضد إسرائيل، فلماذا لا يزال سلاحه خارج سلطة الدولة؟ هذا السؤال لم يعد مجرد جدل سياسي، بل بات اختبارًا وجوديًا لحق اللبنانيين في دولة واحدة بقرار واحد وسيادة واحدة. فكيف يمكن لبلد أن ينهض، أو يفاوض، أو يدخل في علاقات طبيعية مع العالم، فيما القرار العسكري الأعلى ما زال بيد قوة حزبية لا تخضع لمؤسسات الدولة؟ إن إعلان الحزب تعليق العمل العسكري كان لحظة مفصلية، لكن ما تلاها كان أكثر خطورة من الحرب نفسها: توقف النار، وبقي السلاح. توقفت المواجهة، واستمرت المنظومات، واستمر التدريب، واستمرت البنى العسكرية، كأن شيئًا لم يتغيّر. وإذا توقفت الوظيفة العسكرية، فمن الطبيعي أن تنتقل أدواتها إلى الدولة، لا أن تبقى مستقلة عنها، لأن وجود سلاح لا يقاتل العدو يعني أنه يقاتل الدولة نفسها، يقاتل قرارها، يقاتل مؤسساتها، ويضع في يد جهة واحدة حق الفيتو على مستقبل وطن كامل.

لبنان اليوم لا ينهار بسبب أزمة مالية فقط، بل بسبب ازدواجية السلطة. لا يمكن لاقتصاد أن ينهض بينما القرار الأمني ليس موحّدًا. لا يمكن لشعب أن يبني بلدًا بينما هناك دولة رسمية ودولة موازية، دستور صامت وسلاح ناطق. هناك حقيقة أخرى أشد حدّة: في اللحظة التي يُجمّد فيها الحزب عمله العسكري، يصبح وجود السلاح خارج الدولة إعلانًا ضمنيًا بأن السلاح بات جزءًا من المعادلة السياسية لا الأمنية. وهذا معنى خطير، لأنه يجعل السلاح لاعبًا سياسيًا فوق اللعبة الدستورية نفسها. في العالم كله، لا تُبنى دولة بوجود قوتين مسلحتين، ولا يُكتب دستور على بندقية حزبية، ولا يُفرض الاستقرار بقوة خارج الشرعية. لبنان ليس استثناء، ولن يكون. المجتمع الدولي يعرف ذلك، العرب يعرفون ذلك، والشعب اللبناني يعرفه أكثر من الجميع. ولهذا يطرح السؤال نفسه بإلحاح غير مسبوق: إذا لم يعد السلاح يُستخدم، فمن أجل من يبقى؟ ومن أجل ماذا؟ وما الذي يمنع انتقاله إلى الدولة إن لم تعد هناك حرب؟ وإن كانت هناك حرب، فلماذا يقال إنها توقفت؟

الخطر الأكبر اليوم ليس بقاء السلاح فقط، بل بقاء تبرير السلاح بعد انتهاء وظيفته القتالية. لأن السلاح الذي ينسحب من الجبهة، ويظل خارج الدولة، يتحول إلى قوة سياسية مطلقة بلا محاسبة، بلا رقابة، بلا تنافس، وبلا سقف. وهذا أخطر من الحرب. الحرب تُدار، أما ازدواجية السلطة فتدمر الدولة من جذورها. من يمنع الدولة من فرض سيادتها؟ من يعطل مشروع نهوضها؟ من يقرر متى تدخل في صراع ومتى تهدأ؟ من يملك قدرة التأثير على علاقاتها الخارجية؟ إن لبنان لا يريد مواجهة مع أحد، ولا يريد إلغاء أحد، ولا يريد حربًا أهلية، ولا يريد كسر حزب أو طائفة. لكن لبنان، ببساطة، يريد أن يكون دولة. ودولة لا يمكن أن تكون إلا بسلاح واحد وقرار واحد وسيادة واحدة.

السلاح الذي توقف عن إطلاق النار يجب أن يتوقف عن إطلاق ظله على الدولة. فإذا انتهت المعركة، انتهى مبرر بقاء السلاح خارجها. وإن لم تنتهِ المعركة، فما معنى إعلان توقف العمليات؟ اللبنانيون اليوم يقفون أمام لحظة تاريخية لا مجال للالتفاف عليها: إما دولة واحدة موحدة، أو دولة مشطورة إلى شرعية ودولة ظل. إما سيادة تُصنع في المؤسسات، أو سيادة محكومة بميزان قوة حزبية. وإما أن يكون السلاح في خدمة لبنان، أو يكون لبنان في خدمة السلاح. الحقيقة مرّة لكنها واضحة: السلاح الذي لا يقاتل العدو… سيبقى يقاتل فكرة الدولة. واللبنانيون اليوم يريدون دولة. ولا شيء غير الدولة.