قراءة في اتفاق غزة: الشرق الأوسط يبدّل خرائطه ولبنان على الخط الأمامي
بقلم الكاتب والباحث السياسي عبد الحميد عجم

لم يكن اتفاق غزة مجرّد وقف لإطلاق النار. كان أشبه بهدنة بين زمنين:
زمنٍ تصنع فيه الميليشيات معادلات الإقليم، وزمنٍ يعود فيه القرار إلى الدول.
ما جرى في غزة هو نقطة تحوّل استراتيجية ستنعكس على كلّ ساحات الصراع في الشرق الأوسط، من طهران إلى الضاحية الجنوبية في بيروت.
حين اعتلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصة الكنيست، بدا المشهد احتفالياً.
لكن خلف الابتسامات والكلمات الدبلوماسية، كانت تُكتب أخطر وثيقة إعادة تموضع سياسي وعسكري في المنطقة منذ “كامب ديفيد”.
فالاتفاق لم يولد في سياقٍ إنساني بحت، بل في إطار صفقة جيوسياسية كبرى تهدف إلى طيّ صفحة حروب الوكلاء وإعادة ضبط ميزان الردع على مقاس تحالف أميركي–إسرائيلي–عربي يزداد تماسكاً.
> زمن “غزة – بيروت – صنعاء” كمثلث ضغط إيراني قد انتهى.
إسرائيل خرجت من الحرب بثقة ميدانية، والولايات المتحدة استعادت زمام المبادرة السياسية، والدول العربية التي دعمت الاتفاق أرادت أن تقول لطهران بصوتٍ خافت لكن حاد: لقد تعبنا من حروبك بالنيابة.
إيران بين الحصار الداخلي والانكشاف الإقليمي
إيران دخلت مرحلة ارتباك غير مسبوقة.
الضربة العسكرية التي تلقتها في حزيران كانت بداية الانحدار، لكن صفقة غزة جاءت لتكشف حجم التراجع السياسي والنفسي للنظام الإيراني.
لم تعد طهران قادرة على فرض شروطها، ولا على حماية “رموز مشروعها” في الميدان.
اقتصادها ينهار، والشارع يغلي، ومشروع “الهيمنة بالمقاومة” فقد مبرره الأخلاقي والسياسي.
النظام الذي كان يفاخر بأنه يسيطر على أربع عواصم عربية، بات اليوم محاصراً في عاصمته.
والخطر الحقيقي على طهران لم يعد في الخارج، بل في الداخل الإيراني نفسه: مجتمعٌ متململ، اقتصادٌ يترنح، وجيلٌ جديد يرفض أن يعيش أسيراً لشعارات حربٍ لم تعد تعنيه
في لبنان، ارتدّ اتفاق غزة كارتداد الموجة بعد العاصفة.
فالحزب الذي طالما قدّم نفسه كحارس “جبهة المقاومة” وجد نفسه أمام مرآة قاسية:
غزة أوقفت الحرب وبدأت المفاوضات، بينما هو محاصر بضغوط الداخل وتحوّلات الخارج.
الضربات الإسرائيلية المركّزة خلال الأشهر الماضية قلّصت قدراته العملياتية، والضائقة المالية الناتجة عن الأزمة الإيرانية أضعفت شبكاته الاجتماعية والسياسية.
والأهم، أن البيئة اللبنانية لم تعد تتقبل خطاب “المعركة المفتوحة”.
ففي بلدٍ يعيش انهيارًا اقتصاديًا شاملاً، لم يعد الناس يبحثون عن “نصرٍ إلهي” بقدر ما يبحثون عن كهرباء ودواء ودولة.
اللحظة الراهنة تُشبه ما بعد عام 2000، لكن بوجهٍ مقلوب:
حينها انسحب الإسرائيليون واحتفل الحزب بالنصر،
أما اليوم، فالحزب يُحاصر سياسيًا وإقليميًا، بينما تستعد المنطقة لإغلاق آخر جبهاته.
لبنان في مهبّ التسويات الكبرى
الحديث في الكواليس الدبلوماسية لا يدور حول “هل” ستصل تداعيات الاتفاق إلى لبنان، بل “متى” و“كيف”.
فصفقة غزة، بحسب أكثر من مصدر سياسي غربي، تتضمّن بندًا غير معلن يقضي بتوسيع نطاق التهدئة لتشمل جنوب لبنان.
بمعنى آخر: المجتمع الدولي يريد تطبيق القرار 1701 بحرفيته، ووضع حدٍّ نهائي لوجود سلاحٍ خارج سلطة الدولة اللبنانية.
هذا يعني أن المرحلة المقبلة ستشهد تصعيدًا دبلوماسيًا وأمنيًا متوازيًا:
ضغط دولي على بيروت لضبط الحدود الجنوبية، وضغط إسرائيلي ميداني مستمر ضد أهداف لحزب الله، لكن ضمن معادلة “الردع بلا حرب”.
الرسالة واضحة: لا أحد يريد تكرار نموذج غزة في لبنان.
المفارقة أن أغلب العواصم العربية تتعامل مع صفقة غزة كمنعطف استراتيجي لاستعادة التوازن العربي في الإقليم.
بعد سنواتٍ من الانكفاء، عاد التنسيق العربي – الأميركي إلى الواجهة، وبدأ الحديث في الكواليس عن “إطار أمني عربي – شرق أوسطي” هدفه تحصين المنطقة من اختراقات إيران ووكلائها.
ولبنان، بما يملكه من موقع جغرافي وحساسية سياسية، سيكون محور الاختبار.
فإما أن يعود إلى حضن النظام العربي كدولة سيّدة ذات قرارٍ مركزي،
وإما أن يبقى رهينة مشروعٍ خاسر يلفظ أنفاسه في طهران.
اتفاق غزة هو أكثر من تسوية سياسية؛ إنه خريطة طريق لمرحلة شرق أوسطية جديدة.
الذين قرأوه كهدنة قصيرة لا يدركون أنه إعادة كتابة لتوازن القوى بين الدول والمليشيات، بين منطق الدولة ومنطق الفوضى.
ومن يراقب بدقة يدرك أن الميدان اللبناني هو الصفحة التالية في هذا التحوّل.
المرحلة المقبلة لن تحتمل ازدواجية السلاح ولا ترف الشعارات القديمة.
فإما أن يُترجم لبنان إرادة العيش بسيادة حقيقية،
وإما أن تفرض عليه القوى الكبرى “سلاماً قسرياً” كما فُرض على غزة.
> الشرق الأوسط يتغير.
وإيران تتراجع.
ولبنان — كما في كل لحظة مفصلية في تاريخه — يجد نفسه على الخط الأمامي،
بين أن يكون ساحة، أو أن يعود وطناً.