ما بعد التصعيد: لبنان يسير نحو التفاوض لا الحرب

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

ما بعد التصعيد: لبنان يسير نحو التفاوض لا الحرب

منذ صدور البيان الأخير لـ حزب الله ، انقسمت التحليلات بين من يراه تصعيدًا جديدًا ومن يعتبره محاولة لفتح قناة تفاوض غير مباشرة.

لكن قراءة المشهد اللبناني والإقليمي تُظهر بوضوح أن البلاد تتّجه إلى مرحلة تفاوض محسوبة، لا إلى حربٍ جديدة.

الحروب المتتالية بين عامي 2023 و2024 خلّفت آثارًا ثقيلة على لبنان، ولا سيما في الجنوب.

ورغم بقاء الحزب لاعبًا عسكريًا رئيسيًا، فإن كلفة المواجهات الأخيرة كانت مرتفعة ماديًا وبشريًا وسياسيًا.

أفرزت تلك المرحلة خسائر في بعض المستويات القيادية، وأجبرت الحزب على إعادة النظر في بنيته التنظيمية وخططه العملياتية.

وبحسب تقديرات باحثين لبنانيين ودوليين، تقلّصت مساحة المناورة الميدانية بنحو ملحوظ، ما دفع الحزب إلى تحويل تركيزه من التوسّع إلى الدفاع وإعادة التموضع.

البيئة الشعبية التي لطالما احتضنت المقاومة تعاني اليوم من ضغط اقتصادي ومعيشي غير مسبوق.

الاهتمامات اليومية للناس باتت تتقدّم على الشعارات الكبرى، فيما يزداد الإدراك بأن أي حرب جديدة ستضاعف الخسائر الإنسانية والاقتصادية.

هذا الواقع جعل الحزب أكثر حذرًا في حساباته، فالتصعيد اليوم ليس خيارًا استراتيجيًا، بل أداة ضغط محدودة لتحسين شروط التفاوض.

التحولات في الإقليم لا تقلّ أهمية.

محور القوى الذي يمتدّ من اليمن إلى العراق يمرّ بمرحلة إعادة توازن بعد سنوات من المواجهات والاستنزاف.

ومع دخول عدد من الدول العربية في مسارات تهدئة وتفاهمات جديدة، تراجعت أولوية الصدام العسكري لمصلحة الدبلوماسية والاقتصاد.

إيران، التي شكّلت الداعم الأكبر للحزب، تخوض بدورها مراجعة لموقعها في المعادلة الإقليمية.

كل ذلك ينعكس على الحزب الذي يدرك أن الظروف التي مكّنته من التوسّع سابقًا لم تعد قائمة، وأن الحفاظ على دوره يتطلب تكيّفًا سياسيًا وواقعية في التعامل مع الداخل اللبناني.

البيان الأخير للحزب، على الرغم من لهجته العالية، لا يحمل مؤشرات عملية على نية الحرب.

بل يمكن قراءته كجزء من مسارٍ تفاوضي مبطَّن، هدفه تثبيت معادلة الردع من دون كسر التوازن الداخلي أو الإقليمي.

فالطرف الذي جرّب كلفة الحرب يعرف أن التصعيد الشامل لم يعد وسيلة فعالة، وأن الجلوس إلى الطاولة أحيانًا أكثر جدوى من الوقوف على الجبهة.

لبنان اليوم أمام منعطف دقيق.

حرب جديدة ستعمّق الانهيار، لكن التفاهم المدروس قد يفتح نافذة استقرار طال انتظارها.

وفي ظلّ التعب الشعبي والتحولات الإقليمية، يبدو أن كل القوى – بما فيها الحزب – تسير نحو التفاوض كخيار واقعي لا كتنازل.

لم تعد موازين القوى في لبنان كما كانت قبل عقد.

التجارب القاسية في 2023 و2024، وتبدّل البيئة الحاضنة، وتغيّر المشهد الإقليمي، كلها تدفع نحو عقلانية جديدة في إدارة الصراع.

لهذا، مهما علت نبرة الخطابات، يبقى الاتجاه واضحًا: لبنان يبتعد عن لغة الحرب، ويقترب أكثر من منطق التفاهم والتفاوض.